قالت الشيعة: إن تولي أبي بكر وعمر وعثمان الخلافة تباعًا كان أمرًا مخططًا بينهم؛ لتنحية علي بن أبي طالب، وأن قول الله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ {آل عمران:144} أن ما كان من الصحابة الثلاثة هو ما عناه الله في لفظ «انقلبتم»([1]).
الرد على محتوى الشبهة:
أولًا: من المتواتر الثابت أنه قد كان لأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهما اختصاص عظيم بالنبي ﷺ، وكانوا من أعظم الناس اختصاصًا به، وصحبة له وقربة إليه، وقد صاهرهم كلَّهم، وكان يحبهم ويثني عليهم، والنبي ﷺ لا يفعل ذلك معهم إلا إذا كانوا على درجة عالية من الاستقامة والعدالة.
وكان توليهم الخلافة مؤسسًا على الشورى وإجماع الأمة، وعلِي رضي الله عنه نفسه قد أقر بخلافتهم، وكان لهم خير عون، ولم يصدر عنه رضي الله عنه في حقهم غيرُ التبجيل والاحترام.
وقد عُرف بالتواتر الذي لا يخفى على العامة والخاصة أن أبا بكر وعمر وعثمان ي كان لهم بالنبي ﷺ اختصاص عظيم، ويستحيل أن يُقال: إنهم كانوا على غير ذلك والنبي لا يعلم بحالهم، أو كان يعلم ولكنه كان يداهنهم؛ فهذا قدح في النبي ﷺ وطعن في عصمته، وإن كانوا قد انحرفوا بعد الاستقامة، فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته وأكابر أصحابه، وممن وعد أن يظهر بهم دينه على الدين كله، فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين؟!
فهذا ونحوه من أعظم ما يقدح به هؤلاء في الرسول ﷺ كما قال الإمام مالك وغيره: «إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في الرسول ﷺ؛ ليقول القائل: رجل سوء، كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلًا صالحًا لكان أصحابُه صالحين»([2]).
فأبو بكر الصديقُ اجتمعت الأمة عليه كما ذكر أبو بكر الباقِلَّاني: «وكان رضي الله عنه مفروض الطاعة؛ لإجماع المسلمين على طاعته وإمامته وانقيادهم له، حتى قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه مجيبًا على قول أبي بكر رضي الله عنه لما قال: أقيلوني فلست بخيركم، فقال: لا نقيلك؛ قدَّمك رسول الله ﷺ لديننا، ألا نرضاك لدنيانا؟ يعني بذلك حين قدَّمه للإمامة في الصلاة مع حضوره، واستنابته في إمارة الحج، فأمرك علينا، وكان ا أفضل الأمة وأرجحهم إيمانًا وأكملهم فهمًا وأوفرهم علمًا»([3]).
«وأما عمر ا فقد عُقدت الخلافة له بالشورى والاتفاق، ولم يورد التاريخ أي خلاف وقع حول خلافته بعد ذلك، ولا أن أحدًا نهض طوال عهده لينازعه الأمر، بل كان هناك إجماع على خلافته وعلى طاعته في أثناء حكمه، فكان الجميع وحدة واحدة»([4]).
بل ويذكر أن عليًّا كان ضمن من استشارهم الصديق فيمن يتولى الخلافة بعده، وكان رأيه أن يتولى الفاروق الخلافة بعد الصديق([5]).
وأما عُثْمَانُ بن عفان ا فلَمْ يَصِرْ إِمَامًا بِاخْتِيَارِ بَعْضِهِمْ، بل بِمُبَايَعَةِ النَّاسِ لَهُ، وَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ بَايَعُوا عُثْمَانَ وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ بَيْعَتِهِ أَحَدٌ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَمْدَانَ بْنِ عَلِيٍّ: مَا كَانَ فِي الْقَوْمِ أَوْكَدُ بَيْعَةً مِنْ عُثْمَانَ كَانَتْ بِإِجْمَاعِهِمْ([6]).
ثانيًا: لم يرد أي نص صحيح يصف على وجه اليقين، أو حتى على وجه الشك مثل هذه المؤامرة، ونحن لا نأخذ شيئًا من سيرة الرسول ﷺ ولا من سيرة الصحابة ي إلا بنقل صحيح، ودليل قوي ثابت، فلا نقبل برواية موضوعة، أو منكرة، أو شديدة الضعف، خاصة في الأمور الخلافية، والأمور التي فيها طعن ولو بسيطٌ في أحد الصحابة، فكيف بمن يطعن في عمالقة الصحابة، وبشبهة مثل هذه الشبهة؟!
ثالثًا: إذا كانوا قد تآمروا على هذا الأمر في حياة الرسول، فأين كان الوحي وقتئذ؟! أيعلم الله بمثل هذا الأمر الخطير، ثم لا يوحي إلى رسوله به؟! أم يوحي إلى الرسول بذلك ويكتم؟!
إن الأمر على أي وجه فيه طعنٌ مباشر ليس في كبار الصحابة فقط، بل في الله ورسوله، ولا يخفى ضلال هذا المنهج في التناول.
رابعًا: الأحداث التي دارت قبيل وفاة الرسول ﷺ وبعد وفاته، لا توحي مطلقًا بوجود مؤامرة، فلم يكن أبو بكر رضي الله عنه قريبًا من بيت الرسول ﷺ في الوقت الذي طلب رسول الله تقديمه للصلاة، ولو كان هناكَ اتفاق بينه وبين السيدة عائشة رضي الله عنها لأصبح قريبًا من البيت حتى يتولى الإمامة حسب الاتفاق، بل إنه في اليوم الأخير في حياة الرسول، مع أنه يعلم أن هذا المرض هو مرض موت الرسول، إلا أنه قد استأذن في الذهاب إلى السُّنْحِ خارج المدينة؛ حيث بيتُ أمِّ خارجة زوجته ل.
ولو كان يرغب في الخلافة، ويتآمر عليها لبقي في بيته الذي بالمدينة، بيتِ أسماءَ بنت عميس رضي الله عنها، ثم لو كان هناك تآمر، أكانت السيدة عائشة تراجع رسول الله في أمر الصلاة وتقول له: إن أبا بكر رجل أسيف أو رقيق؟!
كان من الممكن أن يقول لها رسول الله ﷺ : نعم الحق معك فليصل فلان بالناس، فإذا عيّن رجلًا آخر كانت الصلاة له، ثم الخلافة بعد ذلك، ولكن ذلك لم يحدث، على الرغم من أنها راجعته وأصر هو على موقفه.
وكما ذكرنا لم تكن فاطمة ولا علِي رضي الله عنهما بعيدين عن سرير رسول الله، فلو أمر أحدًا غير أبي بكر بالصلاة لأخبرهما بذلك الأمر، وهو ما لم يحدث.
خامسًا: هل ظهر في سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما عند تولي الخلافة ما يشير إلى أنهما طَمِعَا فيها حتى يقوما بهذه المؤامرة الخبيثة؟
أعتقد أنه لو كان هناك رجل بهذا الخبث الذي يتحايل فيه على نبي، وعلى أمة، فإن حياته سوف تشهد بذلك لا محالة، فماذا فعل أبو بكر بالخلافة؟
ألم يكن خليفة المسلمين، ثم ينزل ويخدم العجوز في بيتها، ويحلب الشاة للضعفاء وعندما يُسأل: من أنت؟ يقول: رجل من المهاجرين؟
أهذا هو الرجل المتآمر على الخلافة؟
لقد كانت الرئاسة في حقِّه، وفي حق عمر من بعده، عبئًا وتكليفًا، ولم تكن أبدًا هديةً أو تشريفًا.
سادسًا: لو كان في نية هؤلاء الأفاضل أن يتآمروا أكانوا يذهبون إلى سقيفةِ بني ساعدة ثلاثة فقط؟ ألم يكن من المناسب أن يدبروا الأمر ويأتوا بالمهاجرين؟
ماذا كان سيحدث لو اجتمعت الشورى على غيرهم؟
وماذا كانوا سيفعلون وهم ثلاثة، وفي أرض المدينة؟
التحليل الصادق يقول: إنهم ما أعدوا لهذا الأمر مطلقًا، بل ذهبوا على سجيتهم، وطرحوا آراءهم، ووجدت قبولًا شرعيًّا وعقليًّا عند الأنصار، فقدموا أبا بكر الصديق.
سابعًا: أيتآمر أبو بكر وعمر على الخلافة؟ ألا يعلم المغرضون إلى أي القبائل ينتميان؟
أبو بكر الصديق من قبيلة بني تيم، وهي من أضعف بطون قريش، وعمر ابن الخطاب من قبيلة بني عدي، وهي قبيلة ضعيفة أيضًا، أيتآمر رجلان من هاتين القبيلتين على سائر قبائل قريش؟
أيتآمران على بني هاشم، وبني أمية، وبني مخزوم وغيرها من القبائل العظيمة الكبيرة ذات المنعة؟
لقد كان اختيار أبي بكر للخلافة أمرًا لافتًا للنظر فعلًا، فقد تعجب أبو قحافة نفسه والد الصديق من هذا الأمر، فروى الحاكم عن أبي هريرة أنه قال: «لما قُبِضَ رسول الله ارتجت مكة، فسمع أبو قحافة ذلك، فقال: ما هذا؟ قالوا: قُبِضَ رسول الله، قال: أَمْرٌ جلل، فمن قام بالأمر بعده؟ قالوا: ابنك. قال: فهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم. قال: لا واضع لما رفعت، ولا رافع لما وضعت»([7]).
فالجميع كانوا يتعجبون من هذه النتيجةِ للانتخاب، وليس لها تفسير إلا أنها حدثت من نفوس طاهرة أخرجت الدنيا تمامًا من القلب، وحكّمت الشرع والدين، ورضيت بقول الله وقول رسوله([8]).
اقرأ أيضا| إعراض النبي عن مشورة الصديق والفاروق في الخروج للقتال خارج المدينة
([1]) انظر: شبهات وردود: الرد على شبهات أحمد الكاتب حول إمامة أهل البيت ووجود المهدي المنتظر، سامي البدري، نشر المؤلف، ط3، 1421هـ.
([2]) أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، د. علي الصلابي (ص201 – 202).
([3]) أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي (ص162).
([4]) عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي (ص105- 106).
([5]) أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، د. علي الصلابي (ص166).
([6]) منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية (1/532 – 533) بتصرّف.
([7]) المستدرك، الحاكم (3/274).
([8]) نقلًا عن موقع طريق الإسلام د راغب السرجاني.
لتحميل الملف pdf