قال شيخهم علِي النباطي: «والشيخان قد أكذبا ما روى سعيدٌ فيهما بجزعهما عند موتهما، حتى قال الأول لابنته عائشة: هلك أبوك؛ هذا رسول الله معرض عني، فقال عمر: لا تخبروا بذلك، فإنكم أهل بيت يعرف فيكم عند الموت الهذيان»([1])
وقال الحلي عن أبي بكر الصديق: «وقال عند احتضاره: ليت أمي لم تلدني! يا ليتني كنت تبنة في لبنة!([2]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: الروايات في ذلك إنما تنسب لعمر بن الخطاب لا للصديق رضي الله عنهما، ومع ذلك فلا يثبت لها إسناد، ولم يثبت عن عمر إلا أنه قال: «وَاللهِ لَوْ أَنَّ لِي طِلَاعَ الأَرْضِ ذَهَبًا لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ عز وجل قَبْلَ أَنْ أَرَاهُ»([3]).
وقد تم الرد على ذلك في جواب شبهة (زعمهم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جزع عند موته) في كتابنا: (فصل الخطاب في درء الشبهات عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب) فليراجعه من شاء الاستزادة.
ولذلك نفى شيخ الإسلام أن يكون هذا ثابتًا عن أبي بكر رضي الله عنه، فقال رحمه الله : «قَالَ الرَّافِضِيُّ: «وَقَالَ عِنْدَ احْتِضَارِهِ: لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي! يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تِبْنَةً فِي لَبِنَةٍ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ نَقَلُوا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مُحْتَضِرٍ يَحْتَضِرُ إِلَّا وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ».
وَالْجَوَابُ: أَنَّ تَكَلُّمَهُ بِهَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، بل هُوَ بَاطِلٌ بِلَا رَيْبٍ، بل الثَّابِتُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ، وَتَمَثَّلَتْ عِنْدَهُ عَائِشَةُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى
إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ قَوْلِي: ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ {ق:19}»([4]).
ثانيًا: لو ثبت ذلك عن الصديق لدل على شدة خوفه من الله تعالى وتعظيمه لربه، وهذا من كمال فضله، وعلو شأنه في الدين؛ ولهذا أثنى الله في كتابه على عباده الخائفين منه، المشفقين من عذابه، في آيات كثيرة، كقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ {النازعات:40}.
وقد اعترف علماء الشيعة بأن هذا من التواضع لله ونفي الكبر.
يقول الفيض الكاشاني في كتابه المحجة البيضاء: «فلا ينبغي أن يكون العالم أكبر عند نفسه من الصحابة؟ وقد كان بعضهم يقول: يا ليتني لم تلدني أمّي، ويأخذ الآخر تبنة من الأرض ويقول: يا ليتني كنت هذه التبنة، ويقول الآخر: يا ليتني كنت طيرًا، كلُّ ذلك خوفًا من خطر العاقبة فاكتمل خشوهم بمثل هذا.
ومثاله مثال عبدٍ أمره سيّده بأمور، فشرع فيها وترك بعضها وأدخل النقصان في بعضها، وشكَّ في بعضها أنّه هل أدَّاها كما يرتضيه مولاه أم لا؟ فأخبر مخبر أنَّ مولاه مرسل إليه رسولًا يخرجه من كلِّ ما هو فيه عريانًا ذليلًا، ويلقيه على بابه في الشمس والحرِّ زمانًا طويلًا، حتّى إذا ضاق عليه الأمر، وبلغ به الجهد أمر برفع حسابه، وفتَّش عن جميع أعماله قليلها وكثيرها، ثمّ أمر به إلى سجن ضيق وعذاب دائم لا يروح عنه ساعة، وقد علم أنَّ سيّده قد فعل بطوائف من عبيده مثل ذلك وعفى عن بعضهم، وهو لا يدري في أيِّ الفريقين يكون، فإذا تفكَّر في ذلك انكسرت نفسه وذلَّ وبطل عزُّه وكبره وطهر حزنه وخوفه، ولم يتكبّر على أحد من الخلق، بل تواضع رجاء أن يكون هو من شفعائه عند نزول العذاب، فكذلك العالم إذا تفكَّر فيما ضيَّعه من أوامر ربِّه بجنايات على جوارحه، وبذنوب في باطنه من الرّياء والحقد والحسد والعجب والنفاق وغيره، وعلم ممّا هو بصدده من الخطر العظيم فارقه كبره لا محالة»([5]).
وعليه، فهذا غاية المدح للصديق رضي الله عنه.
ثالثًا: ورد في كتب الرافضة ما يدل على أن الأئمة كان يصيبهم مثل تلك الأحوال عند الموت، ولم يقل أحدٌ منهم أن هذا كان جزعًا منهم!
فقد روى الصدوق بسنده «عن الحسين بن علي عليهم السلام قال: لما حضرت الحسن بن علي الوفاة بكى، فقيل له: يا بنَ رسول الله، أتبكي ومكانك من رسول الله (ص) مكانك الذي أنت فيه، وقد قال: رسول الله (ص) فيك ما قال، وقد حججت عشرين حجة ماشيًا، وقد قاسمت ربك مالك ثلاث مرات حتى النعل وبالنعل؟! فقال: إنما أبكي لخصلتين: لهول المطلع، وفراق الأحبة»([6]).
فهل يقال: إن بكاء الحسن رضي الله عنه عند موته دليلٌ على جزعه، وشهادةٌ على نفسه بعدم النجاة مثلًا؟ وهو أحد الأئمة المعصومين عند الرافضة!
كما ورد أيضًا في مناجاة السَّجَّاد، أنه كان يتمنى لو لم يُولد أصلًا، قال محمد تقي المدرسي: «أوَلم تسمع مناجاة الإمام السجاد علي بن الحسين S: لَيْتَ شِعْرِي! أَلِشَّقَاءِ وَلَدَتْنِي أُمِّي أَمْ لِلْعَنَاءِ رَبَّتْنِي؟! فَلَيْتَهَا لَمْ تَلِدْنِي وَلَمْ تُرَبِّنِي، وَلَيْتَنِي عَلِمْتُ أَمِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ جَعَلْتَنِي، وَبِقُرْبِكَ وَجِوَارِكَ خَصَصْتَنِي، فَتَقِرَّ بِذَلِكَ عَيْنِي وَتَطْمَئِنَّ لَهُ نَفْسِي»([7]).
ومثل هذا الكلام مما لا إشكال فيه عند أهل الفهم السوي، والفطرة المستقيمة.
بل هذه الصِّدِّيقة مريم، يقول عنها الله تبارك وتعالى: ﴿ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا﴾ {مريم:23}.
فهل يتجرأ الرافضة على الطعن في مريم عليها السلام أو في السجاد، كما صنعوا مع الصديق ا؟
وهذه الرواية نفسُها قد وردت في كتب الرافضة عن الصحابة المنتجبين عندهم، ومن ذلك ما رواه ابن طاووس: «لما نزلت هذه الآية: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ﴾ {الحجر:43، 44} بكى النبي ﷺ بكاءً شديدًا وبكى صحابته لبكائه ... فسمع سلمان، فقال: يا ليتني كنت كبشًا لأهلي فأكلوا لحمي، ومزقوا جلدي ولم أسمع بذكر النار، وقال أبو ذر: يا ليت أمي كانت عاقرًا ولم تلدني ولم أسمع بذكر النار، وقال عمار: يا ليتني كنت طائرًا في القفار، لم يكن علي حساب ولا عقاب، ولم أسمع بذكر النار، وقال علي عليه السلام : يا ليت السباع مزقت لحمي، وليت أمي لم تلدني، ولم أسمع بذكر النار»([8]).
فهل يقال: إن أبا ذر وسلمان رضي الله عنهما -وهما من الصحابة المنتجبين عند الرافضة– قد جَزِعَا، وشَكَّا في كونهما من أهل الجنة؟
وماذا يقول الرافضة عن قول قسيم الجنة والنار عندهم، وتمنيه أن لو كانت السباع قد مزقت لحمه، وأن لو لم تلده أمُّه أصلًا؟!
وعليه؛ فما ورد عن الأعلام في ذلك ما هو إلا مدح لهم؛ كونه استصغارًا للنفس أمام الله تعالى، ولا يقول عن هذا إنه طعن إلا جاهل حاقد.
رابعًا: تمني الإنسان أن يكون ترابًا إنما يذم عليه لو كان بعد الموت؛ لأن الله عز وجل ذكر أن هذا من قول الكفار، أما الندم في الدنيا فيدل على التوبة أو التواضع لله، وكلاهما يمدحان في الدنيا ويُذمان إن كانا بعد فوات أوانهما.
خامسًا: يزعمون في نفس السياق أنهما لو كانا مبشرين بالجنة لما جاز لهما الخوف من النفاق أو من العذاب، فيقال: هذا يدل على أنهما ما كانا منافقين يقينًا كما يزعم الرافضة، وأن أخذ الخلافة من علي لا يدل على النفاق، وإلا لعرف الفاروق مثل هذا، كما يدل على الخشية من الله، وأنهما ما كانوا أهل جحود وعناد، بل تواضع وخشية، فإن أهل الكفر والنفاق يتواضعون لله ويخشونه في الآخرة لا الدنيا.
وأما تعارض هذا مع حديث المبشرين بالجنة، فيقال: لعل الله أنساهما هذا ليكتمل خشوعهما وأثرهما الطيب على الناس، أو لعل الفاروق خشي من النفاق الأصغر لا الأكبر، فتأول إخبار النبي ﷺ لحذيفة أنه أخبره بأسماء الكل، ومن المعلوم أن النفاق الأصغر لا يخرج من الملة، إلا أنه يقلل من درجة العبد في الآخرة.
وهذا لأن الجمع مقدم على الترجيح، ولم يتعذر الجمع كما تبين، فظهر أن هؤلاء عندهم شهوة للطعن في الصديق والفاروق تعميهم عن فهم مدلول النص، فتأمل هذا وعض عليه.
اقرأ أيضا| إنكارهم إنفاق الصديق بدعوى أنه كان فقيرًا
([1]) الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم، علي النباطي (1/143).
([2]) منهاج الكرامة في معرفة الإمامة، الحلي (1/99).
([3]) صحيح البخاري (5/12).
([4]) منهاج السنة النبوية، ابن تيمية (5/482).
([5]) المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني (٦/٢٦٢).
([6]) عيون أخبار الرضا (2/271).
([7]) من هدى القرآن (12/192).
([8]) الدُّروع الواقية (ص274)، بحار الأنوار (43/87).
لتحميل الملف pdf