قالت الشيعة: إن الصحابة أكرهوا عليًّا على البيعة، ولم يبايع إلا مكرهًا، ورووا في ذلك رواياتٍ.
قال هاشم البحراني في كتابه «غاية المرام»: «الباب السادس والخمسون في إخراج أمير المؤمنين عليه السلام لبيعة أبي بكر مكرهًا ملبَّبًا، وإرادة حرق بيت فاطمة عند امتناعه من البيعة، وإرادة قتله عليه السلام من طريق الخاصة، وفيه ستة أحاديث:
الأول: الشيخ المفيد في «أماليه»، قال أبو بكر أحمد بن منصور الرمادي: حدثنا سعيد بن عفير قال: حدثني ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، عن مروان بن عثمان قال: لما بايع الناس أبا بكر دخل علي عليه السلام والزبير والمقداد بيت فاطمة عليها السلام وأبوا أن يخرجوا، فقال عمر بن الخطاب: أضرموا عليهم البيت نارًا، فخرج الزبير ومعه سيفٌ، فقال أبو بكر: عليكم بالكلب، فقصدوا نحوه، فزلت قدماه وسقط إلى الأرض، ووقع السيف من يده، فقال أبو بكر: اضربوا به الحجر، فضرب سيفه بالحجر حتى انكسر، وخرج علي بن أبي طالب نحو العالية، فلقيه ثابت بن قيس بن شماس فقال: ما شأنك يا أبا الحسن؟ فقال: أرادوا أن يحرقوا عَلَيَّ بيتي، وأبو بكر على المنبر يبايع له لا يدفع عن ذلك ولا ينكر، فقال له ثابت: والله لا تفارق كفي يدك أبدًا حتى أقتل دونك، فانطلقا جميعًا حتى أَتيَا إلى المدينة، وإذا فاطمة عليها السلام واقفة على بابها، وقد خلت دارها من أحد من القوم وهي تقول: لا عهد لي بقوم أسوأ محضرًا منكم، تركتم رسول الله جنازةً بين أيدينا، وقطعتم أمركم بينكم ولم تستأمروا، وصنعتم بنا ما صنعتم، ولم تروا لنا حقًّا»([1]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: هذا غاية الطعن في علي بن أبي طالب رضي الله عنه من عدة أوجه:
- الوجه الأول: أنه بذلك يكون كافرًا والعياذ بالله، وذلك أن علماء الشيعة لما أرادوا تبرير عدم بيعة الحسين ليزيد قالوا بأن بيعة يزيد كفر.
فقد روى أبو مِخنف في حديث عمّار أنّه قال: «بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، لقد خرجتُ من جوارك كرهًا، وفُرِّق بيني وبينك، وأُخذت قهرًا أن أُبايع يزيد، شارب الخمور، وراكب الفجور، وإن فعلت كفرت»([2]).
ولا فرق عندهم بين الصدِّيق ويزيد من ناحية الكفر!
- الوجه الثاني: الإكراه على البيعة مخالَفة صريحة للدين عند الشيعة؛ إذ الإكراه لا يمكن أن يصل إلى أن يكفر المعصوم، بأن يبايع على السمع والطاعة لكافر في عقيدتهم، وهذا ما قرره أحد أكابر علمائهم فقال: «وفي حدود هذا التكليف الإلهي، فإن خروج الإمام من البلاد كان كافيًا للقيام بالواجب المترتب عليه نتيجة ذلك، وكذلك أيضًا لو أنه اختار صعود الجبال، والاختفاء عن الأنظار (كما اقترح عليه ابن عباس، بأَن يذهب إلى شعاب الجبال)، وإذا ما افترضنا أنه كان قد اختار الاختفاء عن الأنظار في أحد البيوت، فإنه يكون بذلك قد قام بواجبه أيضًا، لكنه لم يكن معذورًا فيما لو رضخ للبيعة الإكراهية، فتقبُّل الإكراه من وجهة نظر الإسلام لا يشمل مثل هذه الحالات، وقاعدة: «رُفع عن أمتي ما استكرهوا عليه، ولا ضرر ولا ضرار» لا يجوز تطبيقها عندما يكون المتضرر هو الإسلام، كأَن يجبر الإنسان أو يكره على كتابة كتاب ضد الإسلام أو معاند لأهل القرآن الكريم»([3]).
فها هو علِي لم يغادر المدينة هربًا من البيعة ولا اختفى في مكان، وقد كان يسعه ذلك على عقيدة الشيعة.
- الوجه الثالث: أن المكره على البيعة يجعل للذي أكرهه سبيلًا عليه، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ {النساء:141}.
والدليل على أن من أُكرِه على البيعة قد جعل للمُكرِه له سبيلًا عليه: ما رواه ابن ميثم البحراني قال: «ومن كتابه –أي: علي عليه السلام - إلى طلحة والزبير، مع عمران بن الحصين الخزاعي... فَإِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَانِي طَائِعَيْنِ، فَارْجِعَا وَتُوبَا إِلَى اللهِ مِنْ قَرِيبٍ، وَإِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَانِي كَارِهَيْنِ، فَقَدْ جَعَلْتُمَا لِي عَلَيْكُمَا السَّبِيلَ بِإِظْهَارِكُمَا الطَّاعَةَ، وَإِسْرَارِكُمَا الْمَعْصِيَةَ»([4]).
فهذه مخالفة صريحة من علِيٍّ لكتاب الله، فقد جعل لأبي بكر ب أعظم السبيل عليه لما بايعه، حتى ولو كان إكراهًا.
- الوجه الرابع: قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ {النساء:97}.
فهذه الآية تأمر المستضعفَ بالهجرة من بلده، ومن لم يهاجر فهو في جهنم وساءت مصيرًا.
- الوجه الخامس: هذه البيعةُ تعتبر تركًا للولاية التكوينية التي ينسبها الشيعة لعلي!
يقول المرجع كمال المعاصر الحيدري: «وأهل البيت -عليهم السلام- لم يستعملوا التصرف التكويني دائما، بل استخدموه للضرورة القصوى؛ فحيث تغلق أمامهم السبل لإثبات إمامتهم وخلافتهم الحقيقية لرسول الله صلى الله عليه وآله كانوا يستعينون بالتصرف التكويني»([5]).
فكان علي يستطيع أن يطير في السماء لينجو من الإكراه، بل يستطيع أن يخسف بهم الأرض، ومن كان هذا حاله فلا يتحقق لمثله الإكراه قط!
- الوجه السادس: روى الشيعة أن النبي ﷺ أمر عليًّا أن يبذل ماله ودمه دون دينه، فإذا كانت الخلافة من دينه، كما يعتقد الشيعة، لزم ألا يتنازل عنها.
ففي «الكافي» سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «كان في وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام أن قال: يا علي، أوصيك في نفسك بخصال احفظها عني، ثم قال: اللهم أعنه: ... والخامسة: بذلك مالك ودمك دون دينك»([6]).
فهذه مخالفة صريحة لوصية رسول الله ق الذي أمره ببذل ماله ودمه دون دينه، وهذا ما لم يحصل، بل سلم دينه سهلًا وبايع دون إكراه، كما سنبين.
ثانيًا: ثبت عند الشيعة أن عليًّا قد بايع طوعًا لا كرهًا.
فقد جاء في كتاب «الغارات» للثقفي أن عليًّا قال: «فَمَشَيْتُ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَبَايَعْتُهُ، وَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاغَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ، وَكَانَتْ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ، فَتَوَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأُمُورَ فَيَسَّرَ وَسَدَّدَ وَقَارَبَ وَاقْتَصَدَ، فَصَحِبْتُهُ مُنَاصِحًا وَأَطَعْتُهُ فِيمَا أَطَاعَ اللهَ فِيهِ جَاهِدًا، وَمَا طَمِعْتُ أَنْ لَوْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ وَأَنَا حَيٌّ أَنْ يُرَدَّ إِلَيَّ الْأَمْرُ الَّذِي نَازَعْتُهُ فِيهِ طَمَعَ مُسْتَيْقِنٍ، وَلَا يَئِسْتُ مِنْهُ يَأْسَ مَنْ لَا يَرْجُوهُ، وَلَوْلَا خَاصَّةُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُمَرَ لَظَنَنْتُ أَنَّهُ لَا يَدْفَعُهَا عَنِّي، فَلَمَّا احْتُضِرَ بَعَثَ إِلَى عُمَرَ فَوَلَّاهُ فَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَنَاصَحْنَا، وَتَوَلَّى عُمَرُ الْأَمْرَ وَكَانَ مَرْضِيَّ السِّيرَةِ مَيْمُونَ النَّقِيبَةِ»([7]).
يقول عالم الشيعة محمد كاشف الغطاء عن عليٍّ رضي الله عنه: «وحين رأى أنَّ الخليفتين قبلَه بذلا أقصى الجهد في نشر كلمة التوحيد وتجهيز الجيوش، وتوسيع الفتوح، ولم يستأثِرَا ولم يستبدَّا، بايع وسالم»([8]).
ولذلك لعَنَ عليٌّ من لم يقل بأنه رابع الخلفاء، وهذا إقرار منه بخلافة من تقدم، وأما الشيعة فلا يزالون يقولون: إنه أول الخلفاء، ولا يعترفون بكونه خليفة رابعًا.
قال ابن شاذان وهو يعدد مناقب علي: «المنقبة التاسعة والخمسون...: عن علي بن الحسين، عن أبيه قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «من لم يقل إني رابع الخلفاء الأربعة فعليه لعنة الله».
قال الحسين بن زيد: فقلت لجعفر بن محمد عليهما السلام: قد رويتم غير هذا، فإنكم لا تكذبون؟ قال: نعم، قال الله تعالى في محكم كتابه: [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ ] {البقرة:30} فكان آدم أول خليفة الله، قوله تعالى: [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ] {البقرة:30}. و[ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ] {ص:26}، فكان داود الثاني، وكان هارون خليفة موسى، قوله تعالى: [اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ] {الأعراف:142} وهو خليفة محمد صلى الله عليه وآله: (فمن لم يقل إني رابع الخلفاء فعليه لعنة الله»([9]).
وستأتي الأدلة على بيعة علِي في الجواب على من أنكر بيعته ا وعن سائر الصحابة أجمعين.
اقرأ أيضا| زعمهم أن لقب الصديق هو لعلي بن أبي طالب دون أبي بكر
([1]) غاية المرام، هاشم البحراني (٥/334).
([2]) تاريخ أبي مخنف (ص٢٤)، الوثائق الرسميّة لثورة الإمام الحسين، الحسيني القزويني (1/45).
([3]) الملحمة الحسينية، مرتضى مطهري (٣/١٠٨).
([4]) شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني (5/188).
([5]) بحث حول الإمامة حوار مع المرجع الديني كمال الحيدري، جواد علي كسار (ص٣٨٣).
([6]) الكافي، الكليني (15/196)، وقال المجلسي مرآة العقول (25/180): «صحيح».
([7]) الغارات، ابن هلال الثقفي (1/203)، نهج البلاغة (1/741).
([8]) أصل الشيعة وأصولها (ص123- 124).
([9]) مائة منقبة، ابن شاذان القمي (1/125).
لتحميل الملف pdf