قالت الشيعة: إن أهل السنة تناقضوا في إثبات خلافة أبي بكر فبعضهم قال: ثبتت بالنص، وبعضهم قال: بالشورى، وهذا تناقض في طريق إثبات الخلافة لأبي بكر، وإذا كانت الخلافة بالشورى فكيف تسمونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلفه؟
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: الخليفة هو الذي يخلف غيره، وإن لم يستخلفْه، وهذا معروف في اللغة، وقد يكون بمعنى من استخلفه غيره.
قال ابن تيمية رحمه الله : «وَالْخَلِيفَةُ لَا يَكُونُ خَلِيفَةً إِلَّا مَعَ مَغِيبِ الْمُسْتَخْلِفِ، أَوْ مَوْتِهِ، فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَلِيفَةٌ فِيهَا، كَمَا أَنَّ سَائِرَ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَجَعَ انْقَضَتْ خِلَافَتُهُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ وُلَاةِ الْأُمُورِ إِذَا اسْتَخْلَفَ أَحَدُهُمْ عَلَى مِصْرِهِ فِي مَغِيبِهِ بَطَلَ اسْتِخْلَافُهُ ذَلِكَ إِذَا حَضَرَ الْمُسْتَخْلِفُ. وَلِهَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ يَسْتَخْلِفُ أَحَدًا عَنْهُ، فَإِنَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ شَهِيدٌ مُدَبِّرٌ لِعِبَادِهِ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَوْتِ، وَالنَّوْمِ، وَالْغَيْبَةِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: يَا خَلِيفَةَ اللهِ. قَالَ: لَسْتُ خَلِيفَةَ اللهِ، بل خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ، وَحَسْبِي ذَلِكَ.
وَاللهُ تَعَالَى يُوصَفُ بِأَنَّهُ يَخْلُفُ الْعَبْدَ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ»، وَقَالَ فِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ: «وَاللهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»، وَكُلُّ مَنْ وَصَفَهُ اللهُ بِالْخِلَافَةِ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ خَلِيفَةٌ عَنْ مَخْلُوقٍ كَانَ قَبْلَهُ، كَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ﴾ {يونس:14}، ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ {الأعراف:69}، ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ {النور:55}، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ ﴾ {البقرة:30}، أَيْ: عَنْ خَلْقٍ كَانَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ، وَغَيْرُهُمْ»([1]).
ثانيًا: خلافة أبي بكر رضي الله عنه من قوة أدلتها وجدناها ثبتت بالنص -على خلاف في كونه جليًّا أو خفيًّا-، وكذلك ثبتت باختيار الصحابة وإجماعهم على الصديق ومبايعتهم له، وكلما كان الأمر من المسلمات وجدت أدلته غاية في القوة والتنوع، فأنت تجد أدلة التوحيد أو النبوة أو حتى الصلاة متنوعة بين دليل قرآني أو حديثي أو إجماع أو عقل أو غير ذلك، وهذا يرسخ في الذهن القضية محل الاستدلال بلا شك.
وإليك بعض الطرق في أدلة خلافة الصديق:
أولاً: من القرآن:
* الدليل الأول: قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ {النور:55}، وقد تحقق ذلك في خلافة الصديق عند كل منصف، فقد مكن الله له ولدينه في الأرض، وأبدلهم من بعد خوفهم أمنًا، وجعلهم سادة وقادة الدنيا.
* الدليل الثاني: قوله تعالى: ﴿قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ۖ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا ۖ وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ {الفتح:16}.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: «قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ﴾ أَيْ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ ﴿سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ أَبِي ليْلَى وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هُمْ فَارِسُ. وَقَالَ كَعْبٌ وَالْحَسَنُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: الرُّومُ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هَوَازِنُ وَثَقِيفٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هَوَازِنُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمُقَاتِلٌ: بَنُو حَنِيفَةَ أَهْلُ الْيَمَامَةِ أَصْحَابُ مُسَيْلِمَةَ. وَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: وَاللهِ لَقَدْ كُنَّا نَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ فِيمَا مَضَى ﴿سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾، فَلَا نَعْلَمُ مَنْ هُمْ حَتَّى دَعَانَا أَبُو بَكْرٍ إِلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ هُمْ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمْ تَأْتِ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَرُدُّهُ.
الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَعَاهُمْ إِلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَعُمَرَ دَعَاهُمْ إِلَى قِتَالِ فَارِسَ وَالرُّومِ. وَأَمَّا قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ: إِنَّ ذَلِكَ فِي هَوَازِنَ وَغَطَفَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَلَا؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي لَهُمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ﴿لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ۖ ﴾، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّاعِي غَيْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَدْعُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بَعْدَ النَّبِيِّ ق إِلَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ب»([2]).
* الدليل الثالث: قوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ﴾ {آل عمران:110}.
والمخاطب بهذه الآية هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت ولاية أبي بكر حرامًا منكرًا لوجب أن ينهوا عن ذلك، ولو كانت ولاية علِي واجبةً لكان ذلك من أعظم المعروفِ الذي يجب أن يأمروا به، وإذا شهدوا أن أبا بكر أحقُّ بالإمامة وجَبَ أن يكونوا صادقين في هذه الشهادة.
فثبت صحةُ خلافة الصديق من القرآنِ، فضلًا عن أن الله تعالى جعله الرجل الثاني في الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ ﴾ {التوبة:40}، وفضلًا عن لقبه «الصديق» الذي جعله الله في المرتبة التالية للأنبياء مباشرة لما قال: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾ {النساء:69}.
ثانيًا: من السنة:
* أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع خلافته رضي الله عنه على سبيل المدح والحمد لها والرضا بها، ودل الأمة وأرشدها إلى بيعته، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين: «أن أَبَا هُرَيْرَةَ ا قَالَ: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «بينا أنا نائم، رأيتني على قليب عليها دَلْوٌ، فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أخذها ابن أبي قحافة، فنزع بها ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ، وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللهُ يغفر له ضعفه، ثم استحالت غربًا، فأخذها ابن الْخَطَّابِ، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن»([3]).
فهذا مدح النبي صلى الله عليه وسلم لخلافة أبي بكر وعمر ب، وأما قوله صلى الله عليه وسلم عن خلافة أبي بكر: «وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ»، فهذا إشارة إلى قلة سني خلافته، وهو ما وقع فعلًا، ولو كانت خلافتهما لا ترضي الله تعالى أو أنها غير صحيحة لما مدحها النبي.
* وفي «صحيح البخاري»: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ، وَأَعْهَدَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلْتُ: يَأْبَى اللهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ يَدْفَعُ اللهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ»([4]).
وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِيهِ هَمُّهُ بِأَنْ يَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا بِالْخِلَافَةِ؛ لِئَلَّا يَقُولَ قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى، ثُمَّ قَالَ: «يَأْبَى اللهُ ذَلِكَ وَالْمُؤْمِنُونَ» فَلَمَّا عَلِمَ الرَّسُولُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَخْتَارُ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، وَالْمُؤْمِنُونَ لَا يَخْتَارُونَ إِلَّا إِيَّاهُ اكْتَفَى بِذَلِكَ عَنِ الْكِتَابِ، فَأَبْعَدَ اللهُ مَنْ لَا يَخْتَارُ مَا اخْتَارَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ»([5]).
وفي هذا فضيلة عظيمة للأمة؛ لأن الأمة إذا رشدت وولت الصديق طوعًا بغير إلزام، وكان هو الذي يرضاه الله ورسوله كان أفضل للأمة، ودل على علمها ودينها؛ فإنها لو ألزمت به لربما قيل: إنها أكرهت على الحق وهي لا تختاره، كما كان يجري ذلك لبني إسرائيل، ويظن الظان أنه كان في الأمة بقايا جاهلية من التقديم بالأنساب، فكان ما اختاره الله لنبيه أفضل، ولهم أفضل.
وروى الإمام أحمد «عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُرِيَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ صَالِحٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ نِيطَ بِرَسُولِ اللهِ، وَنِيطَ عُمَرُ بِأَبِي بَكْرٍ، وَنِيطَ عُثْمَانُ بِعُمَرَ»، قَالَ جَابِرٌ: فَلَمَّا قُمْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: أَمَّا الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَأَمَّا ذِكْرُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَوْطِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَهُمْ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم»([6]).
وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ كَأَنَّ دَلْوًا دُلِّيَتْ مِنَ السَّمَاءِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا، فَشَرِبَ مِنْهُ شُرْبًا ضَعِيفًا، قَالَ عَفَّانُ: وَفِيهِ ضَعْفٌ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ، فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا، فَشَرِبَ حَتَّى تَضَلَّعَ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ، فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا فَشَرِبَ، فَانْتَشَطَتْ مِنْهُ، فَانْتَضَحَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ»([7]).
* وفي سنن أبي داود: «عَنْ سَفِينَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللهُ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ أَوْ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ»([8]).
وكل هذا غاية المدح لخلافة الصديق، وأنها مرضية عند الله تعالى وعند رسوله ﷺ وعند المؤمنين، وهذه إشارات واضحة لمدح النبي ﷺ لخلافة أبي بكر والإشارة إليها وحمدها.
* وأما الأمر بطاعة الصديق وتفويض الأمر إليه، فعنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ»([9]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «أَخْبَرَ أَنَّهُمَا مِنْ بَعْدِهِ، وَأَمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا، فَلَوْ كَانَا ظَالِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ فِي كَوْنِهِمَا بَعْدَهُ لَمْ يَأْمُرْ بالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالِاقْتِدَاءِ بِالظَّالِمِ، فَإِنَّ الظَّالِمَ لَا يَكُونُ قُدْوَةً يُؤْتَمُّ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ {البقرة:124} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الظَّالِمَ لَا يُؤْتَمُّ بِهِ. وَالِائْتِمَامُ هُوَ الِاقْتِدَاءُ؛ فَلَمَّا أَمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ بَعْدَهُ، وَالِاقْتِدَاءُ هُوَ الِائْتِمَامُ، مَعَ إِخْبَارِهِ أَنَّهُمَا يَكُونَانِ بَعْدَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا إِمَامَانِ قَدْ أُمِرَ بِالِائْتِمَامِ بِهِمَا بَعْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ»([10]).
* وقال ﷺ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»([11]).
فأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، وجعل خلافتهم إلى مدة معينة، فدل ذلك على أن المتولي في تلك المدة هم الخلفاء الراشدون، فإنهم خلفوه في ذلك، فانتفى عنهم بالهدى الضلال، وبالرشد الغي، وهذا هو الكمال في العلم والعمل.
* وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ شَيْئًا، فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ فَلَمْ أَجِدْكَ؟ قَالَ أَبِي: كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ. قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَائْتِي أَبَا بَكْرٍ»([12]).
فهذه روايات واضحة من النبي ﷺ في الأمر بطاعة الصديق وتفويض الأمر إليه.
* وأما إرشاد النبي ﷺ للأمة إلى بيعة الصديق، فمن ذلك ما جاء في صحيح مسلم أن أصحاب النبي ﷺ كانوا معه في سفر فذكر الحديث وفيه: «فَإِنْ يُطِيعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا»([13]).
* وأيضًا استخلاف النبي ﷺ للصديق في الصلاة، وهذا متواتر، «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ»([14]).
* وفي حديث ابن مسعود أن عمر قال: يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أنّ رسول الله ﷺ أمر أبا بكر أن يؤم بالناس؟ فأيُّكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالوا: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر.
قال في «أنيس الساري»: «وحديث ابن مسعود أخرجه ابن سعد (2/224 و3/178-179)، وابن أبي شيبة (2/330 -331 و14/567)، وأحمد (1/21 و396)، وفي «فضائل الصحابة» (190)، ويعقوب بن سفيان (1/454)، وابن أبي عاصم في «السنة» (1193)، ومحمد بن عاصم في «جزئه» (11)، والنسائي (2/58)، وفي «الكبرى» (853)، والحاكم (3/67)، وأبو نعيم في «فضائل الخلفاء» (185)، والبيهقي (8/152)، وفي «المدخل» (56)، وابن عبد البر في «التمهيد» (22/128 - 129)... إلخ»([15]).
فهذه روايات واضحة في إثبات صحة خلافة الصديق، بغض النظر عن الطريق الذي حصلت به، والقائلون بالنص الجلي «اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَسْمِيَتِهِ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ، وقَالُوا: وَالْخَلِيفَةُ إِنَّمَا يُقَالُ لِمَنِ اسْتَخْلَفَهُ غَيْرُهُ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْفَعِيلَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَخْلَفَ عَلَى أُمَّتِهِ»([16]).
فهذه خلافة أبي بكر ا ثابتة بالنص كما ترى.
ثالثا: وأما الإجماع على ثبوت خلافته ا فأشهر من أن يذكر:
يقول أبو الحسن الأشعري: «وقد أجمع هؤلاء الذين أثنى الله عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وسموه خليفة رسول الله ق وبايعوه وانقادوا له، وأقروا له بالفضل، وكان أفضل الجماعة في جميع الخصال التي يستحق بها الإمامة من العلم والزهد وقوة الرأي، وسياسة الأمة وغير ذلك»([17]).
وقال ابن أبي عاصم: «وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بَيْعَتِهِ -أي الصديق-، وَعَلِمُوا أَنَّ الصَّلَاحَ فِيهَا فَسَمَّوْهُ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ وَخَاطَبُوهُ بِهَا»([18]).
وقال ابن حزم: «إجماع الأمة حينئذ جميعًا على أن سموه خليفة رسول الله ﷺ»([19]).
وقال ابن عبد البر: «وأجمعوا أنَّ أبا بكر كان يكتبُ: «من خليفةِ رسولِ الله ﷺ» في كتبه كلِّها»([20]).
وأما إجماع الأمة على بيعة الصديق من كتب الشيعة فالنصوص في ذلك كثيرة، منها:
1- قال الشريف المرتضى: «وأما إقراره عليه السلام أحكام القوم لما صار الأمر إليه فالسبب فيه واضح، وهو استمرار التقية في الأيام المتقدمة باقٍ وما زال ولا حال، وإنما أفضت الخلافة إليه بالاسم دون المعنى، وإنما اختاره وبايعه من كان يرى أكثرهم وجمهورهم والغالب عليهم صحة إمامة من تقدم»([21]).
وقال أيضًا: «ومعلوم أن جمهور أصحابه وجلهم كانوا ممن يعتقد إمامة من تقدم عليه السلام، وفيهم من يفضلهم على جميع الأمة»([22]).
وينقل المرتضى الإجماع على بيعة أبي بكر فيقول: «وكيف يمكن أمير المؤمنين الخلاف على من بايعه جميع المسلمين، وأظهروا الرضا به، والسكون إليه؟»([23]).
وقال: «وسعى القوم إلى سقيفة بني ساعدة، وجرى لهم فيها مع الأنصار ما جرى، وتم لهم عليهم كما اتفق من بشير بن سعد ما تم وظهر، وإنما توجه لهم من قهرهم الأنصار ما توجه أن الإجماع قد انعقد على البيعة، وأن الرضا وقع من جميع الأمة». وقال: «وكل من حارب معه (ع) في هذه الحروب، إلا القليل كانوا قائلين بإمامة المتقدمين عليه (ع) ومنهم من يعتقد تفضيلهم على سائر الأمة»([24]).
2- قال الحسن بن موسى النوبختي: «فصار مع أبي بكر السواد الأعظم والجمهور الأكثر، فلبثوا معه ومع عمر مجتمعين عليهما راضين بهما»([25]).
2- قال الطبرسي: «وكان علي بن أبي طالب عليه السلام لما رأى خذلان الناس له وتركهم نصرته واجتماع كلمة الناس مع أبي بكر وطاعتهم له وتعظيمهم له جلس في بيته»([26]).
فكل هذه نقول من علماء الشيعة تؤيد القول بإجماع الصحابة على بيعته، وعليه فليس ثَّم تناقض إلا في رؤوس الشيعة، فخلافة الصديق ثبتت بإشارات واضحة من النبي ﷺ ، ثم ببيعة الصحابة له وإجماعهم عليه، فجمعت خلافته بين الخير كله، حتى من ناحية الطريق الذي حصلت منه.
رابعًا: لو سلمنا أن كل مسألة مختلف فيها بين أهل السنة تستلزم أن يكون كلا القولين خطأ، للزم من هذا دين الرافضة أيضًا، فإنه قل من مسألة إلا وتنازعوا فيها، ولكننا لا نلزمهم بمثل هذا؛ لأنهم قوم يضعون الشبهة التي غرقوا في مثلها، معتمدين على أن هناك جمهورًا عريضًا من الرافضة يصدق أي شيء في سبيل الطعن في الصديق، أما أهل السنة فليس فيهم من الهوى ما عند هؤلاء، فلا نحتج بمجرد الخلاف على خطأ المسألة، وكأن المعترض يقول: ليس في الدين مسألة صحيحة إلا لو أجمع عليها أهل المذهب. والحمد لله رب العالمين.
اقرأ أيضا| زعمهم أن لقب الصديق هو لعلي بن أبي طالب دون أبي بكر
([1]) منهاج السنة النبوية (7/352).
([2]) تفسير القرطبي (16/272).
([3]) صحيح البخاري (3/1340) ت البغا، صحيح مسلم (7/113) ط التركية.
([4]) صحيح البخاري (7/119) ط السلطانية.
([5]) منهاج السنة النبوية (8/571).
([6]) مسند أحمد (23/124) ط الرسالة.
([7]) مسند أحمد (33/385) ط الرسالة.
([8]) سنن أبي داود (4/343) ط مع عون المعبود.
([9]) سنن الترمذي (3662) (3805)، وسنن ابن ماجه (97)، ومسند أحمد (382) (385) (399) (401) (402)، والسنن الكبرى (5/12) (8/153)، والمستدرك (3/75)، وحلية الأولياء (9/190)، ومسند الحميدي (949)، والمعجم الكبير للطبراني (9/68).
([10]) منهاج السنة النبوية (8/362).
([11]) سنن أبي داود (4/330) ط مع عون المعبود، وسنن ابن ماجه (1/15 ت عبد الباقي)، ومسند أحمد (28/373) ط الرسالة.
([12]) صحيح مسلم (7/110) ط التركية.
([13]) صحيح مسلم (2/140) ط التركية.
([14]) صحيح البخاري (1/236) ت البغا، صحيح مسلم (2/22) ط التركية.
([15]) أنيس الساري تخريج أحاديث فتح الباري، نبيل البصارة (9/6634).
([16]) منهاج السنة النبوية (1/507).
([17]) الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الأشعري (ص252).
([18]) السنة، ابن أبي عاصم (2/646).
([19]) الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم (7/120).
([20]) التمهيد، ابن عبد البر (14/71) ت بشار، وللتوسع راجع موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي (5/140).
([21]) الذخيرة في علم الكلام (ص478).
([22]) الشافي في الإمامة، الشريف المرتضى (3/144).
([23]) الشافي في الإمامة (3/246).
([24]) تنزيه الأنبياء (ص188).
([25]) تنزيه الأنبياء، الشريف المرتضي (ص185).
([26]) الاحتجاج، الطبرسي (1/108).
لتحميل الملف pdf