شبهة تجسس عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قوم في دارهم!

الشبهة الواحدة والسبعون

تجسس عمر بن الخطاب على قوم في دارهم

 

محتوى الشبهة:

يقول محمد طاهر القمي الشيرازي: "ومنها: أنه تجسس على قوم في دارهم، ذكره الطبري، والرازي، والثعلبي والقزويني، والبصري، وفي محاضرات الراغب، وإحياء الغزالي، وقوت القلوب المالكي، فقال أصحاب الدار: أخطأت لقوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [سورة الحجرات:12]، ودخلت من غير باب لقوله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [سورة البقرة:189]، ودخلت من غير اذن لقوله تعالى: { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [سورة النور:27]"([1]).

الرد التفصيلي على الشبهة:

أولاً: أنا أذكر مصادر جميع الروايات التي وردت في الموضوع دون ذكر المتن حتى لا يطول الرد إلا متن الرواية الصحيحة فسأذكره، ثم أذكر حكم أهل العلم علي تلك الروايات، أو العلة التي فيها.

الحديث الأوّل: وهو الذي أورده صاحب كتاب الأربعين: رواه أبو بكر محمّد بن جعفر الخرائطيُّ (ت:327هـ) في (مكارم الأخلاق)، وأسنده البخاريّ في (التّاريخ الكبير)، وكذا العسكريّ في كتاب (الأوائل) ([2]).

الحكم على الرواية:

قال مُحقِّقُ (مكارم الأخلاق): "سنده ضعيف"([3]). عبد اللّه بن صالح كثير الغلط.

وفي (فتاوى اللّجنة الدّائمة، المجموعة الأولى): هل صحيح ما يُروى عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، من أنّه ذات مرّة قفز جدران أحد المنازل، ثمّ وجد بداخله أناسًا يشربون الخمر، فقالوا له: نحن ارتكبنا إثمًا واحدا، وأنت ارتكبت ثلاثة: لم تستأذن، ولم تأتنا من الباب، وتجسّست علينا؟([4]).

الجواب: لم تثبت هذه القصّة لدينا بعد تتبُّع ما كُتِب عن عمر رضي الله عنه في كتب التّاريخ والتّراجم، ثمّ هي لا تتناسب مع خلق عمر وسيرته، ويبعد أن يجرؤ عليه أمثال هؤلاء وهم مرتكبون لجريمة شرب الخمر، بل المعهود أنّهم يخجلون، ويصيبهم الخزي؛ لمكانهم من الجريمة، ولِما لِعمر رضي الله عنه من المهابة. وبالله التّوفيق، وصلّى الله على نبيِّنا محمّد وآله وصحبه وسلّم.

اللّجنة الدّائمة للبحوث العلميّة والإفتاء

   عضو ...               عضو               نائب  الرئيس                الرئيس

   عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ...   عبد الرزّاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز.

الحديث الثاني: مصنّف عبد الرزّاق ([5]).

الحكم على الرواية:

وهذه رواية منقطعة فطاووس بن كيسان لم يرو عن عمر. قال الذهبي:" أُرَاهُ وُلِدَ فِي دَوْلَةِ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ"([6]).

 الحديث الثالث: مصنَّف عبد الرزّاق ([7]).

قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ حَرَسَ لَيْلَةً مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَبَيْنَا هُمْ يَمْشُونَ شَبَّ لَهُمْ سِرَاجٌ فِي بَيْتٍ، فَانْطَلَقُوا يَؤُمُّونَهُ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهُ إِذَا بَابٌ مُجَافٍ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ فِيهِ أَصْوَاتٌ مُرْتَفِعَةٌ وَلَغَطٌ، فَقَالَ عُمَرُ وَأَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: «أَتَدْرِي بَيْتُ مَنْ هَذَا؟» قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: «هُوَ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَهُمُ الْآنَ شُرَّبٌ، فَمَا تَرَى؟» قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَرَى قَدْ أَتَيْنَا مَا نَهَانَا اللَّهُ عَنْهُ، نَهَانَا اللَّهُ فَقَالَ: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [سورة الحجرات:12]، فَقَدْ تَجَسَّسْنَا «فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ عُمَرُ وَتَرَكَهُمْ"([8]).

الحديث الرّابع: مصنَّف عبد الرزّاق ([9]).

 الحكم على الرواية: إسناد هذه القصّة ضعيف جدّاً؛ فإنَّ أبا قلابة الجرميّ وإنْ كانَ ثقةً فاضلاً إلاّ أنّه كثيرُ الإرسال، ولم يسمع من عمر؛ فالإسناد منقطِع.

وحاشا عمر رضي الله عنه أن يترك إقامة الحدِّ لو ثبت عنده لتعليلٍ غير سديدٍ، بل في الرّواية على ضعفها أنّه لم يجده يشرب الخمر([10]). 

الحديث الخامس: التّوبيخ والتّنبيه ([11]).

الحكم على الرواية: قال محقّق (التّوبيخ والتّنبيه): "إسناده ضعيف جدّا؛ لأجل محمّد بن حميد"([12]).

وقال محقِّق (التّرغيب والتّرهيب) لِقَوَّام السُّنَّة: "منقطع: السُّدي الكبير لم يُدرك عمر رضي الله عنه ، ومظنّة القصّة من طريق السّدّي عند ابن جرير في التّفسير"([13]).

الحديث السّادس: سنن سعيد بن منصور ([14]).

الحكم على الرواية: قال محقِّقوا سنن سعيد بن منصور: "سنده ضعيف؛ للانقطاع بين الحسن البصريّ وعمر بن الخطّاب([15]).

والخلاصة: أن جميع الروايات التي ذكرت أن عمر رضي الله عنه تسور الجدار، ودخل البيت بغير إذن، وتجسس بغير تهمة كلها لا تصح، والرواية الصحيحة في الموضوع، ليس فيها إلا أن عمر وعبد الرحمن أثناء حراستهم اتبعوا أمارة على شيء من صميم عملهم، فلما اقتربوا من البيت سمعوا لغطًا، ولم يدخلوا البيت، ولم يكشفوا ما ستره الله، ولم يقصدوا تجسسًا.

 وأما قول عبد الرحمن: "تجسسنا"، فالظاهر من الرواية أنه من باب المبالغة، وإلا فلم يتجسسوا، وإنما سمعوا ما سمعوه عرضًا دون قصد التجسس، ولكن الورع يجعل صاحبه يتهم نفسه بما ليس فيه.

ثانيًا: حتى لو قلنا بأن هناك تجسس فإن من ولي شيئاً من أمور المسلمين ينبغي له أن يتطلع على صغير أمورهم وكبيرها، فإنه عنها مسؤول، ومتى غفل عنها خسر الدنيا والآخرة... وكان عمر رضي الله عنه من شدة حرصه على تعرف الأحوال وإقامة قسطاس العدل وإزاحة أسباب الفساد وإصلاح الأمة يعس بنفسه، ويباشر أمور الرعية سرًا في كثير من الليالي([16]).

قال ابن عرفة: "مَن هو مستور الحال فلا يحلّ التجسُّس عليه، ومَن اشتهر بشرب خمر ونحوه فالتجسُّس عليه مطلوب أو واجب". قلت: معناه: التجسُّس عليه بالشم ونحوه ليُقام عليه الحد، لا دخول داره لينظر ما فيها من الخمر ونحوه، فإنه منهي عنه، وأمّا فعل عمر رضي الله عنه فحالٌ غالبة، يقتصر عليها في محلها"([17]).

إذًا التجسس المنهي عنه هو الذي في غير ريبة؛ ولذلك أدخل النبي صلى الله عليه وسلم يده في طعام ظاهره الصلاح، كما عند مسلم من حديث: "أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟" قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي"([18]).

ثالثًاً: القصة فيها دليل على ورع عمر رضي الله عنه ، وأنه لا يضيع رعيته، ومع ذلك فهو وقَّاف عند حدود الله، وإذا ذُكِّر تذكر، بل وقد قال العالم الشيعي محمد حسين فضل الله في تعليقه على القصة: "ونأخذ من سند الرواية درساً، وهو أن المسلمين كانوا في تلك المرحلة يشعرون بالأمن أمام الاعتراض على السلطات، وكانوا لا يخافون من الاعتراض عليها، فلقد كان عمر الخليفة الزمني، ومع ذلك، فإن هذا الرجل المسلم الذي ارتكب معصية، استطاع بعقل بارد وبأعصاب هادئة أن يردّ عليه، وأن يحاكمه بعد أن كان هو المحكوم([19]).

وعليه فالرواية ليست الا مدحاً لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من كل وجه.

رابعًا: قد قال الشيعة بجواز التجسس في مثل هذه الحالات بمجرد الظن والريبة، ورووا في ذلك روايات كثيرة، ومن ذلك ما ذكره العالم الشيعي المنتظري، فقال: "ويدل على وجوب الاستخبارات وضرورتها إجمالاً مضافًا إلى ما يأتي بالتفصيل من الروايات الخاصة أن حفظ نظام المسلمين وكيانهم يتوقف على الحذر من الأعداء بمراقبتهم والتجسس على القرارات والتحركات الصادرة عنهم، وحيث إن حفظ النظام من أهم ما اهتم به الشرع وأوجبه على الدولة والأمة فلا محالة وجبت مقدماته بحكم العقل والفطرة. ويستفاد وجوب حفظ النظام -مضافا إلى كونه ضرورياً وبديهياً- من أخبار كثيرة مضى أكثرها في الأبواب والفصول السابقة"([20]).

وقال أيضًا: "ففي كتابه إلى حذيفة بن اليمان عامله على المدائن: " وقد وليت أموركم حذيفة بن اليمان، وهو ممن أرضى بهداه، وأرجو صلاحه، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم والشدة على مريبكم، والرفق بجميعكم...

 وفي كتابه إلى أهل مصر لما ولى عليهم قيس بن سعد: "وقد بعثت لكم قيس بن سعد الأنصاري أميراً فوازروه وأعينوه على الحق وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم والشدة إلى مريبكم، والرفق بعوامكم وخواصكم، وهو ممن أرضى هديه وأرجو صلاحه ونصحه".   

 وفي (الغرر والدرر) للآمدي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "أقم الناس على سنتهم ودينهم، وليأمنك برئهم وليخفك مريبهم وتعاهد ثغورهم وأطرافهم.

وفي (نهج البلاغة): "ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً. "

أقول: قال ابن الأثير في النهاية: قد تكرر في الحديث ذكر الريب، وهو بمعنى الشك، وقيل: هو الشك مع التهمة يقال: رابني الشيء وأرابني بمعنى شككني"([21]).

قلت: استدل المنتظري بهذه النصوص وغيرها على وجوب أن تتجسس الدولة على الناس بمجرد الشك، وإحسان الظن بمن ظهرت منه أمارات الفسق لا يجوز، وقد جاء في نهج البلاغة: "وقال عليه السلام: إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ثم أساء رجل الظن برجل لم تظهر منه خزية فقد ظلم. وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله فأحسن رجل الظن برجل فقد غرر"([22]).

وقد سُئل علي الخامنئي عن حكم الدخول إلى أماكن تجمع المفسدين والتجسس عليهم فأجاز ذلك:

س 317: ربما يرى بعض عناصر الأمن لزوم الدخول في بعض المراكز والاختلاط بالجمعيات لغرض كشف مراكز الفحشاء والمجموعات الارهابية، كما تقتضيه أساليب التجسس والتحقيق، فما هو حكم مثل هذه الأعمال شرعاً؟

ج: لا مانع منها إذا كانت بإذن المسؤول المختص ومع الالتزام بمراعاة الحدود والمقررات القانونية ومع الاجتناب عن التلوث بالمعصية وفعل الحرام، ويجب على مسؤوليهم رعايتهم والعناية بهم من هذه الجهة بشكل تام([23]).

فالسؤال إذاً: أحرام على بلابله الدوح …حلال للطير من كل جنس؟

فإذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يأت بمحرم لا عند أهل السنة ولا عند الشيعة فلم التشغيب عليه إذا؟

ثم إنه يلزمكم في علمائكم ما ذكرتموه في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

والحمد الله رب العالمين

 

([1]) الأربعين (ص464).

([2]) محمّد بن جعفر الخرائطيُّ (ت:327هـ) في مكارم الأخلاق (ص907 رقم 563)، البخاريّ في التّاريخ الكبير (2 /178 رقم 2122 باب ثور)، العسكريّ في كتاب الأوائل (ص157 أوّل مَن عَسَّ باللّيل).

([3]) مكارم الأخلاق، د. عبد اللّه بن بجاش بن ثابت الحميريّ (ص907 - 909).

([4]) فتاوى اللّجنة الدّائمة، المجموعة الأولى (26 /6).

([5]) مصنّف عبد الرزّاق (10/231 رقم 18942).

([6]) سير أعلام النبلاء (5/39).

([7]) مصنَّف عبد الرزّاق (10 /231 – 232 رقم 18943).

([8]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (10/231)، ومن طريق عبد الرزّاق رواه البيهقيّ في سننه الكبرى (8 /578 – 579 رقم 17625)، والخرائطيّ في مكارم الأخلاق (ص909 - 910 رقم 564)، والحاكم في المستدرك (4 /531 رقم 8216)،  وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وافقه الذهبيّ.

([9]) مصنَّف عبد الرزّاق (10 /232 – 233 رقم 18944).

([10])انظر: موقع الألوكة، مجالس العلوم الشّرعيّة، مجلس الحديث وعلومه، بيان ضعف قصّة شرب أبي محجن للخمر لسالم بن محمّد العماري، بتاريخ 03/ 01/ 2013م.

([11]) التّوبيخ والتّنبيه (ص136 - 137 رقم 106) لأبي الشّيخ الأصبهانيّ (ت:369هـ)، تحقيق وتعليق: أبي الأشبال حسن بن أمين بن المندُوه، ط/الأولى 1407هـ الجيزة.

([12]) التّوبيخ والتّنبيه (ص136 – 137 الهامش 106).

([13]) التّرغيب والتّرهيب لِقَوَّام السُّنَّة في (1 /398)

([14]) سنن سعيد بن منصور (7 /394، رقم 2028 تفسير سورة الحجرات).

([15]) سنن سعيد بن منصور (7 /394 رقم 2028)، وعزاه السّيوطي في " الدُّرِّ المنثور " (13/570) للمصنِّف وابن المنذر".

([16]) انظر:  المستطرف في كل فن مستطرف، شهاب الدين الأبشيهي (ص344).

([17]) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، ابن عجيبة (5 /431).

([18]) صحيح مسلم (1/99).

([19]) http://arabic.bayynat.org/ArticlePage.aspx?id=7740

الموقع الرسمي لمؤسسة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، 22شعبان 1421هـ / ١٨/١١/٢٠٠٠

([20]) دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، الشيخ المنتظري (2- 548).

([21]) دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية - الشيخ المنتظري - ج 2 – ص570.

([22]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع) (4 – ص27).

([23]) أجوبة الاستفتاءات، السيد علي الخامنئي (2/108).


لتحميل الملف pdf

تعليقات