قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن القرآن: "ذهب منه كثير"

الشبهة الثامنة والستون

قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه  عن القرآن: "ذهب منه كثير".

 

محتوى الشبهة:

روى عبد الرزاق في (مصنفه) من طريق مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مُنَادِيًا فَنَادَى أَنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تُخْدَعُنَّ عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ، فَإِنَّهَا قَدْ نَزَلَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَرأَنَاهَا، وَلَكِنَّهَا ذَهَبَتْ فِي قُرْآنٍ كَثِيرٍ ذَهَبَ مَعَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ رَجَمَ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ رَجَمَ، وَرَجَمْتُ بَعْدَهُمَا، وَإِنَّهُ سَيَجِيءُ قَوْمٌ مِنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ، وَيُكَذِّبُونَ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَيُكَذِّبُونَ بِالشَّفَاعَةِ، وَيُكَذِّبُونَ بِالْحَوْضِ، وَيُكَذِّبُونَ بِالدَّجَّالِ، وَيُكَذِّبُونَ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، وَيُكَذِّبُونَ بِقَوْمٍ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بَعْدَمَا أُدْخِلُوهَا"([1]).

الرد التفصيلي على الشبهة:

أولاً: هذه الرواية ضعيفة، ولا تقوم بها الحُجة؛ لأن في سندها راويًا ضعيفًا وهو عليُّ بن زيد بن جُدعان.

وقد جمع الحافظ الذهبي أقوال المحدثين فيه:" قَالَ أَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِقَوِيٍّ. وَقَالَ البُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُ: لاَ يُحْتَجُّ بِهِ.

وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: لاَ أَحْتَجُّ بِهِ؛ لِسُوْءِ حِفْظِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: صَدُوْقٌ، وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يُلَيِّنُهُ. وَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ زَيْدٍ - وَكَانَ رَفَّاعًا-، وَقَالَ مَرَّةً: حَدَّثَنَا قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِطَ. وَقَالَ حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ: أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بنُ زَيْدٍ وَكَانَ يَقْلِبُ الأَحَادِيْثَ. وَقَالَ الفَلاَّسُ: كَانَ يَحْيَى بنُ سَعِيْدٍ يَتَّقِيْهِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: ضَعِيْفٌ. وَرَوَى: عَبَّاسٌ، عَنْ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَمَرَّةً قَالَ: هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنِ ابْنِ عَقِيْلٍ، وَعَاصِمِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ. وَرَوَى: عُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ، عَنْ يَحْيَى: لَيْسَ بِذَاكَ القَوِيِّ. وَقَالَ العِجْلِيُّ: كَانَ يَتَشَيَّعُ، لَيْسَ بِالقَوِيِّ. وَقَالَ الفَسَوِيُّ: اخْتُلِطَ فِي كِبَرِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لاَ يَزَالُ عِنْدِي فِيْهِ لِيْنٌ.

قُلْتُ: قَدِ اسْتَوْفَيْتُ أَخْبَارَهُ فِي (المِيْزَانِ) وَغَيْرِهِ، وَلَهُ عَجَائِبُ وَمَنَاكِيْرُ"([2]).

وقال الألباني عن الحديث:" إسناده ضعيف؛ من أجل عليّ بن زيد، وهو ابن جُدعان سيء الحفظ"([3]) .

ثانيًا: لو فرضنا صحة الرواية، فإنها تحمل على باب نسخ التلاوة، بقرينة ورود العبارة بعد الكلام عن آية الرجم، ومن المعلوم أنها من منسوخ التلاوة كما سبق بيانه.

ولا شك أن هناك الكثير من الآيات التي نسخت تلاوتها، يقول الطوسي: "وقد أنكر قوم جواز نسخ القرآن، وفيما ذكرناه دليل على بطلان قولهم، وجاءت أخبار متظافرة بأنه كانت أشياء في القرآن نسخت تلاوتها"([4]) .

ثالثًاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك بعد وفاته إلا ما بين الدفتين، روى البخاري في صحيحه عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَشَدَّادُ بْنُ مَعْقِلٍ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَقَالَ لَهُ شَدَّادُ بْنُ مَعْقِلٍ: أَتَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: مَا تَرَكَ إِلَّا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ. قَالَ: وَدَخَلْنَا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَسَأَلْنَاهُ: فَقَالَ: مَا تَرَكَ إِلَّا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ"([5]) .

قال الحافظ ابن حجر: "وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ ذَهَبَ لِذَهَابِ حَمَلَتِهِ"([6]).

رابعاً: لو ذهب شيء من القرآن الكريم لما سكت الصحابة أبدًا، مع العلم أنهم كانوا حريصين أشد الحرص على ما يتعلق بالدين.

وهل يُتخيل أن قومًا بلغ بهم الحرص والدقة أنهم يعدّون الشعرات البيضاء في لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا سيسكتون على ضياع شيء من القرآن الكريم؟

ويلزم منه الطعن في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه الذي أقر هذا التحريف والنقيصة في كتاب الله عزوجل.

يقول جعفر السبحاني: "وهناك نكتة أُخرى جديرة بالإشارة، وهي إنّ تطرّق التحريف إلى المصحف الشريف يعدُّ من أفظع الجرائم التي لا يصحّ السكوت عنها، فكيف سكت الإمام أمير المؤمنين عليه ‌السلام وخاصّته نظير سلمان والمقداد وأبي ذر وغيرهم، مع أنّا نرى أنّ الإمام وريحانة الرسول - صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله‌ وسلم- قد اعترضا على غصب فدك، مع أنّه لا يبلغ عُشْرَ ما للقرآن من العظمة والأهمية؟!... فلو كان هناك تحريف كان ردّ الآيات المزعوم حذفها من القرآن إلى محالِّها أوجب وألزم.

نرى أنّ عليًا- عليه‌ السلام- بعدما تقلّد الخلافة الظاهرية اعترض على إقامة صلاة التراويح جماعة، كما اعترض على قراءة البسملة سرًّا في الصلوات الجهرية إلى غير ذلك من البدع المحدثة، فعارضها الإمام، وشدّد النكير عليها بحماس، فلو صدر أيّام الخلفاء شيء من هذا القبيل حول القرآن لقام الإمام بمواجهته، وردّ ما حذف بلا واهمة"([7]) .

خامسًا: الذي يقول بوقوع نقص كثير في كتاب الله تعالى هي كتب الرافضة ومروياتهم، وما أكثرها في الباب.

من ذلك: ما رواه الكليني بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "إن القرآن الذي جاء به جبرئيل (عليه السلام) إلى محمد (صلى الله عليه وآله) سبعة عشر ألف آية"([8]).

يقول المجلسي عن الحديث: "موثق. وفي بعض النسخ عن هشام بن سالم موضع هارون بن مسلم، فالخبر صحيح، ولا يخفى أن هذا الخبر وكثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن وتغييره، وعندي أن الأخبار في هذا الباب متواترة معنى، وطرح جميعها يوجب رفع الاعتماد عن الأخبار رأسًا، بل ظني أن الأخبار في هذا الباب لا يقصر عن أخبار الإمامة فكيف يثبتونها بالخبر"([9]) .

يعني ذهب قريب من ثلثي القرآن وضاع بحسب هذه الرواية.

ويقول المازندراني: "أقول كان الزائد على ذلك مما في هذا الحديث سقط بالتحريف، وإسقاط بعض القرآن وتحريفه ثبت من طرقنا بالتواتر معنى، كما يظهر لمن تأمل في كتب الأحاديث من أولها الى آخرها"([10]) .

وقال نعمة الله الجزائري: "وليس هو أول قارورة كسرت في الإسلام، كيف لا، وقد سئل عليه السلام عن الربط بين الجزاء والشرط في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]؛ إذ الربط منتف ظاهراً، فقال عليه السلام قد سقط بينهما أكثر من ثلث القرآن، وأخبارنا متواترة بوقوع التحريف والسقط منه بحيث لا يسعنا إنكاره"([11]).

فها هم الشيعة يقرون بتحريف القرآن ويعتبرون الأخبار في ذلك من النصوص المتواترة، فما هم ونحن إلا كما قال القائل: " رمتني بدائها وانسلت".

ونحن وأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وجميع أهل السنة نؤمن أن كتاب ربنا لم يدخله السقط ولا التحريف ولا التبديل بل هو محفوظ بحفظ الله له، نؤمن بذلك كله.

والحمد الله رب العالمين

 

([1]) مصنف عبد الرزاق ( 7/330).

([2]) سير أعلام النبلاء ( 5/207).

([3]) ظلال الجنة في تخريج أحاديث السُنة (ص151).

([4]) تفسير التبيان (1/ 394).

([5]) صحيح البخاري (ص1282، ح5019).

([6]) (فتح الباري) (11 /251).

([7]) المناهج التفسيريّة في علوم القرآن (ص199).

([8]) الكافي (2/634).

([9]) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول (12 /525).

([10]) شرح الكافي (11 /76).

([11]) نور الأنوار في شرح الصحيفة السجادية (ص63).


لتحميل الملف pdf

تعليقات