زعمهم أن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ضرب الباكيات على أبي بكر رضي الله عنه

الشبهة: قال ناصر حسين الموسوي: «ذكر شدة عمر على باكيات أبي بكر: أخبرنا عثمان بن عمر قال: أنبأنا يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: «لما توفي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح، فبلغ عمر، فجاء فنهاهن عن النوح على أبي بكر، فأبين أن ينتهين، فقال لهشام بن الوليد: أخرج إليّ ابنة أبي قحافة، فعلاها بالدرة ضربات، فتفرق النوائح حين سمعن ذلك، وقال: تردن أن يعذّب أبو بكر ببكائكن، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الْـميِّتَ يُعَذَّب بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»» .

الرد علي الشبهة:

أولًا: هذا الأثر رواه ابن سعد في «الطبقات الكبرى»[1]، وابن أبي شبه في «تاريخ المدينة»[2]، والطبري في «تاريخه»[3]، قال: أخبرنا عثمان بن عمر قال: أخبرنا يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: لما توفي أبو بكر.. وأخرجه ابن الأثير في «جامع الأصول»، والمتقي الهندي في «كنز العمال»[4].

وأصل القصة أخرجها البخاري في «صحيحه» تعليقًا[5]، فقال: باب إخراج أهل المعاصي والخصوم من البيوت بعد المعرفة، وقد أخرج عمر أخت أبي بكر حين ناحت.

قال الحافظ ابن حجر: «وصله ابن سعد في الطبقات بإسنادٍ صحيحٍ، من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: لمَّا توفّي أبو بكرٍ أقامت عائشة عليه النّوح، فبلغ عمر فنهاهنّ فأبين، فقال لهشام بن الوليد: اخرج إلى بيت أبي قحافة-يعني أمّ فروة- فعلاها بالدّرّة ضرباتٍ، فتفرّق النّوائح»[6].

وسند هذه القصة صحيح متصل إلى سعيد بن المسيب، ولكنّها مرسلة منقطعة فيما فوق سعيد؛ لأنه ولد بعد الواقعة لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطَّاب، وقيل: لأربع سنين.

وقال صاحب «التّلويح»: «هذا منقطع فيما بين سعيد وعمر؛ فينظر في جزم البخاريّ»[7].

وقال ابن الملقن: «قلت: وهو منقطع فيما بين سعيد وعمر»[8].

ثانيًا:   إنّ محاولة تصوير هذا الموقف أنه من الغلظة المذمومة غير صحيح، وما هي إلا شدة عمر I في الحق التي كانت تنال أهل بيته قبل غيرهم، وصنيعه هذا من باب التأديب والزجر، ولا إشكال فيه.

قال ابن الجوزي: «قلت: ابنة أبي قحافة هي: أم فروة أخت أبي بكر، فلمَّا لم يمكنه أن يكلم عائشة هيبة لها واحترامًا، أدّب هذه»[9].

ومثل هذا مما لا يعاب على الخليفة الراشد عمر I، فهو أمير المؤمنين، والمسؤول عن الأمة، وما فعله من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وله كامل الصلاحية في ذلك؛ إذ هو الإمام، ومعروفٌ أن عمر I لم يكن يفرق بين الناس، فالكل سواسية في التعامل، بل كان يبدأ بأقرب الناس له في القصاص، وما كانت تفعله أخت أبي بكر محرم، وهو النياحة، فنهاها عمر I لكنها لم تنتهِ، فكان الحل هو تأديبها، وهو ما فعله.

ثالثًا:   إن فعل عمر I ليس من باب النهي عن مطلق البكاء على الميت ليصح الاعتراض عليه، كما فعل عباس القمي حين قال: «قلت: كأنّه لم يعلم تقرير النبي H نساء الأنصار على البكاء على موتاهنّ، ولم يبلغه قوله H : لكن حمزة لا بواكي له، وقوله: «على مثل جعفر فلتبك البواكي»، ولعلّه نسي نهي النبي H إيّاه عن ضرب البواكي في يوم وفاة رقيّة[10].

فإن عمر I قد سبق وأنكر عليهن، ولم ينتهين عن النياحة، وهي محرمة كما دلت على هذا النصوص الشرعية، فعن أم عطية قالت: «أخذ علينا رسول الله H مع البيعة ألا ننوح، فما وفت منا امرأة (تعني: من المبايعات) إلا خمس: أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ، أو ابنة أبي سبرة، وامرأة معاذ»[11].

وعن النعمان بن بشير قال: «أغمي على عبد الله بن رواحة I، فجعلت أخته عمرة تبكي: واجبلاه، وكذا، وكذا، تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئًا إلا قيل لي، كذلك؟! فلما مات لم تبك عليه»[12].

 رابعًا: إن عمر I قد بيَّن شفقته على أبي بكر I حين قال -كما في «طبقات ابن سعد» وغيره-: «تردن أن يعذب أبو بكر ببكائكن، وذكر حديث النبي H «إِنَّ الْـمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»»[13].

خامسًا:  إذا استنكر الرَّافضة ضرب عمر بن الخطَّاب I بالدرَّة، وتأديب هؤلاء النسوة، فهل يستنكرون أيضًا فعل علي بن أبي طالب I الذي كان يستعمل الدرة، ويضرب بها من يراه مستحقًّا لذلك؟!

فقد روى الطبرسي عن مختار التمار قال: «كنت أبيت في مسجد الكوفة، وأنزل في الرحبة، وآكل الخبز من البقال، وكان من أهل البصرة، فخرجت ذات يوم، فإذا رجل يصوت بي: ارفع إزارك؛ فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك، فقلت: من هذا؟ فقيل: علي بن أبي طالب، فخرجت أتبعه وهو متوجه إلى سوق الإبل، فلما أتاها وقف وقال: يا معشر التجار، إياكم واليمين الفاجرة؛ فإنها تنفق السلعة وتمحق البركة، ثم مضى حتى أتى إلى التمارين، فإذا جارية تبكي على تمار، فقال: ما لك؟ قالت: إني أَمَةٌ أرسلني أهلي أبتاع لهم بدرهم تمرًا، فلما أتيتهم به لم يرضوه، فرددته، فأبى أن يقبله، فقال: يا هذا، خذ منها التمر، ورد عليها درهمها، فأبى، فقيل للتمار: هذا علي بن أبي طالب، فقبل التمر، ورد الدرهم على الجارية، وقال: ما عرفتك يا أمير المؤمنين، فاغفر لي، فقال: يا معشر التجار، اتقوا الله، وأحسنوا مبايعتكم، يغفر الله لنا ولكم، ثم مضى وأقبلت السماء بالمطر، فدنا إلى حانوت، فاستأذن صاحبه، فلم يأذن له صاحب الحانوت ودفعه، فقال: يا قنبر أخرجه إليّ، فعلاه بالدرة، ثم قال: ما ضربتك لدفعك إياي؛ ولكني ضربتك لئلا تدفع مسلمًا ضعيفًا، فتكسر بعض أعضائه فيلزمك»[14].

فهذا أمير المؤمنين عليٌ I يؤدب أحد التجار ويضربه بالدرة، فهل يقول أحدٌ: إن هذا يدل على قسوته وجفائه؟ أم يدل على حسن سياسته لرعيته؟!

بل وَرَد أن هذه الدرة كانت لا تفارق عليًّا I:

 يقول المجلسي: «ذكر الكوفيون أن سعيد بن قيس الهمداني رآه يومًا في فناء حائط، فقال: يا أمير المؤمنين، بهذه الساعة؟! قال: ما خرجت إلا لأعين مظلومًا، أو أغيث ملهوفًا، فبينا هو كذلك إذ أتته امرأة قد خلع قلبها لا تدري أين تأخذ من الدنيا، حتى وقفت عليه، فقالت: يا أمير المؤمنين، ظلمني زوجي، وتعدى علي وحلف ليضربني، فاذهب معي إليه، فطأطأ رأسه، ثم رفعه وهو يقول: حتى يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، وأين منزلك؟ قالت: في موضع كذا وكذا، فانطلق معها حتى انتهت إلى منزلها، فقالت: هذا منزلي، قال: فسلم، فخرج شاب عليه إزار ملونة، فقال: اتق الله؛ فقد أخفت زوجتك. فقال: وما أنت وذاك، والله لأحرقنها بالنار لكلامك، قال: وكان إذا ذهب إلى مكان أخذ الدرة بيده، والسيف معلق تحت يده، فمن حل عليه حكم بالدرة ضربه، ومن حل عليه حكم بالسيف عاجله»[15].

«وعن عليٍّ I أنَّه كان يمشي في الأسواق وبيده درّةٌ يضرب بها من وجد من مطفّفٍ، أو غاشٍّ في تجارة المسلمين»[16].

*   فهل يدل هذا على غلظةٍ أو شدةٍ مجاوزةٍ للحق من علي بن أبي طالب I؟! أم أن هذا من باب تأديب الرعية بما يستحقون؟!

 

[1]   «الطبقات الكبرى»، ابن سعد (3/156).

[2]   «تاريخ المدينة»، ابن شبة (2/676).

[3]   «تاريخ الطبري» (3/423).

[4]   «كنز العمال»، المتقي الهندي (15/731).

[5]   «صحيح البخاري» (3/122).

[6]   «فتح الباري»، ابن حجر (5/74).

[7]   «عمدة القاري شرح صحيح البخاري»، بدر الدين العيني (12/260).

[8]   «التوضيح لشرح الجامع الصحيح»، ابن الملقن (15/498).

[9]   «كشف المشكل من حديث الصحيحين»، ابن الجوزي (1/60).

[10]  «تعريب منتهى الآمال في تواريخ النبي والآل»، هاشم الميلاني (1/823).

[11]  «صحيح البخاري»، كتاب الجنائز، باب: ما ينهى من النوح والبكاء والزجر عن ذلك (2/84) برقم (1306)، و«وصحيح مسلم»، كتاب الجنائز، باب: التشديد في النياحة (2/645) برقم (936)، واللفظ له، والبيهقي (4/62) وغيرهم.

[12]  «صحيح البخاري»، كتاب المغازي، باب: غزوة مؤتة من أرض الشام (5/144) برقم (4268)، والبيهقي (4/64).

[13]  «طبقات ابن سعد» (3/208).

[14]  «مكارم الأخلاق»، الحسن بن الفضل الطبرسي (ص100).

[15]  «بحار الأنوار»، المجلسي (40/113).

[16]  «دعائم الإسلام»، القاضي النعمان المغربي (2/538).