قول أسماء بنت عميس لعمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: «كذبت»

الشبهة: وقد أورد هذه الشبهة (محسن الخياط) في كتابه «الإفصاح عن المتواري من أحاديث المسانيد والسنن الصحاح» تحت عنوان: (هل كان عمر بن الخطَّاب كاذبًا؟!) .
وذكر ما رواه مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه في حديث طويل، جاء فيه: «..فدخلت أسماء بنت عميسٍ، وهي ممّن قدم معنا، على حفصة زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم زائرةً، وقد كانت هاجرت إلى النّجاشيّ فيمن هاجر إليه، فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميسٍ، قال عمر: الحبشيَّة هذه؟ البحريّة هذه؟ فقالت أسماء: نعم، فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحقّ برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت، وقالت كلمةً: كذبت يا عمر، كلّا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنَّا في دارٍ، أو في أرض البعداء البغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، وايم الله لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتَّى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم...» .
قالوا: فهذا اتهام من أسماء بنت عميس لعمر بن الخطَّاب رضي الله عنه بالكذب.

الرد علي الشبهة:

أولًا: إن الكذب يطلق ويراد به الخطأ، وليس التكذيب والافتراء، وهذا هو ما أرادته أسماء بنت عميس J بكلامها.

قال النووي: «قولها لعمر I: «كذبت» أي: أخطأت، وقد استعملوا كذب بمعنى أخطأ»[1].

قال محمد الخطيب: «وإذا صدر عنهم ألفاظ (الكذب) فإنما يقصدون بها الخطأ والغلط، لا التكذيب والافتراء، وكان هذا يقع كثيرًا بين الصحابة ولا يرون فيه جرحًا ولا إهانة، ولا يخرجون من قيل له ذلك من العدالة والصدق، من ذلك ما قالته أسماء بنت عميس لعمر بن الخطَّاب: «كذبت يا عمر»، وكان ذلك في عهد رسول الله H ، فهل يتصوّر من أسماء أو غيرها أنها تعني التكذيب بمعنى الافتراء؟ إنها تعني الخطأ ولا شك»[2].

وهذه لغة أهل الحجاز؛ إطلاق الكذب على الخطأ.

قال الزبيدي: «وفي «التّوشيح»: أهل الحجاز يقولون: كذبت بمعنى أخطأت، وقد تبعهم فيه بقيّة النَّاس»[3].

ومنه حديث أبي السنابل لما أفتى سبيعة الأسلمية بعدم انقضاء عدتها لما وضعت حملها، فقال النبي H : «كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ، إِذَا أَتَاكِ أَحَدٌ تَرضينَهُ، فَائتِينِي بِهِ -أَوْ قَالَ: فَأَنْبِئِينِي- فَأَخْبَرَهَا أَنَّ عِدَّتَهَا قَدِ انْقَضَتْ»[4].

ثانيًا: إن علماء الإمامية يعترفون بأن الكذب يطلق على الخطأ، بل ويحملونه على هذا المعنى في بعض الموارد.

قال محمد الجواهري: «إنه لم يؤخذ في مفهوم الكذب التعمد، فمعنى أكذب نفسه أنه أظهر اشتباهه، لا أنه اعترف بتعمد كذبه، وقد أجابني بهذا السيد الأستاذ، وكتب اللغة تؤكد صحة ما قاله دام ظله؛ فإن الكذب يأتي بمعنى الخطأ، يقولون: كذبت، بمعنى أخطأت»[5].

ثالثًا: إن تشنيع الإمامية على أصحاب رسول الله H باتهامهم بالكذب، وحمل العبارات على غير مقاصد قائليها، يقابله تبرير وترقيع لأصحاب الأئمة ورواة الأحاديث عندهم، حتى وإن ثبت عنهم الكذب الصريح.

وخير مثال على ذلك: ما وقع من عبد الله بن بكير، الذي ثبت عنه الكذب، ورغم ذلك اعتذروا له، ولم يقدحوا في عدالته.

قال الطباطبائي: «خلافًا لابن بكير؛ استنادًا إلى رواية أسندها إلى زرارة قال: سمعت أبا جعفر يقول: «الطلاق الذي يحبّه الله تعالى، والذي يطلّق الفقيه، وهو العدل بين المرأة والرجل: أن يطلّقها في استقبال الطهر بشهادة شاهدين وإرادة من القلب، ثم يتركها حتى تمضي ثلاثة قروء، فإذا رأت الدم في أوّل قطرة من الثالث، وهو آخر القرء؛ لأنّ الأقراء هو الأطهار فقد بانت منه، وهي أملك بنفسها، فإن شاءت تزوّجته وحلّت له، فإن فعل هذا بها مائة مرّة، هدم ما قبله، وحلّت بلا زوج» الحديث.

ونحوه روايات أخر هي كهذه الرواية قاصرة الأسانيد، ظاهرة الدلالة على عدم صحة الإسناد في هذه الرواية إلى زرارة؛ لتضمّنها أنَّه قال حينما سئل عنه: هذا ممّا رزق الله تعالى من الرأي، وليس مثل ذلك قدحًا فيه، ومنافيًا لدعوى إجماع العصابة على صحة ما صحّ عنه من الرواية، كما ذكره جماعة؛ لاحتمال رؤيته المصلحة في ذلك لتشييد ما رآه وصحّحه بأدلّة هي مستند عنده، وحجة شرعيّة، بعد أن رأى أنَّ قدماء الرواة وأصحابه في تلك الأزمنة لا يقبلون منه ذلك بالمرّة؛ لنسبة ذلك إلى رأيه، فالتجأ إلى اختراع تلك النسبة إلى زرارة إعلاءً لما هو المذهب عنده والحجّة، ويكون ذلك عنده كذبًا لمصلحة، ولعلَّ مثل ذلك عنده لا ينافي العدالة»[6].

فأضحى الكذب الآن جائزًا للمصلحة، غير قادحٍ في الوثاقة والعدالة!

ويقول الطوسي -معتذرًا له-: «ومن هذه صورته: يجوز أن يكون أسند ذلك إلى زرارة نصرة لمذهبه الذي أفتى به، وأنه لما رأى أن أصحابه لا يقبلون ما يقوله برأيه، أسنده إلى من رواه عن أبي جعفر S، وليس عبد الله بن بكير معصومًا لا يجوز هذا عليه»[7].

فتأمَّل كيف برر شيخ طائفتهم الطوسي كذب ابن بكير؛ بأنه ليس معصومًا، وأن هذا جائز في حقه!

فيقال: وهل الكلام في جواز هذا الأمر عليه، أم في منافاته لعدالته، وقدحه في الوثوق برواياته؟

وقال الخوئي -معلقًا على كلام الطوسي-: «وأما ما ذكره الشيخ في (الاستبصار) فلا ينافي الحكم بوثاقته، غايته أن الشيخ احتمل كذب عبد الله بن بكير في هذه الرواية بخصوصها؛ نصرة لرأيه، ومن المعلوم أن احتمال الكذب لخصوصية في مورد خاص لا ينافي وثاقة الراوي في نفسه»[8].

فكل هذه التبريرات لتغطية كذب هذا الراوي، ونسبته رواية مكذوبة للإمام نصرةً لرأيه ومذهبه، لكن إذا تعلق الأمر بأصحاب رسول الله H فإنهم يتكلفون، ويحملون العبارات على غير معانيها الظاهرة لمجرد الطعن فيهم، ومحاولة الانتقاص منهم.


[1]   «شرح النووي على مسلم» (16/65).

[2]   «أبو هريرة راوية الإسلام»، محمد عجاج الخطيب (ص232- 233).

[3]   «تاج العروس من جواهر القاموس»، المرتضى الزبيدي (2/365).

[4]   «مسند أحمد» (7/305) برقم (4273)، «مصنف عبد الرزاق»، كتاب الطلاق، باب: المطلقة يموت عنها زوجها وهي في عدتها (6/473، 11723). وأصل الحديث في الصحيحين.

[5]   «الشهادات والحدود»، محمد الجواهري (2/83).

[6]   «رياض المسائل»، علي الطباطبائي (12/248).

[7]   «الاستبصار»، الطوسي (3/276).

[8]   «معجم رجال الحديث»، الخوئي (11/132).