زعمهم أن عمر رضي الله عنه جهل كتاب الله في قضية الحامل التي وضعت لستة أشهر وهمّ برجمها

الشبهة: نقل ذلك الأميني في كتابه «نوادر الأثر في علم عمر» .

الرد علي الشبهة:

أولًا: اضطربت روايات هذه القصة؛ فمنهم من يرويها بين عمر وعلي، أو عمر وابن عباس، أو عثمان وعلي، أو عثمان وابن عباس M.

قال ابن عبد البر: «يختلف أهل المدينة في رواية هذه القصّة؛ فمنهم من يرويها لعثمان مع علي، كما رواها مالك وابن أبي ذئبٍ؛ ومنهم من يرويها عن عثمان مع ابن عبّاسٍ؛ وأمّا أهل البصرة فيروونها لعمر بن الخطَّاب مع عليّ بن أبي طالبٍ، فأمَّا رواية أهل المدينة فذكرها معمرٌ عن الزّهريّ»[1].

وقد ورد في «مصنف عبد الرزاق» أن الذي صحّح لعمر هو ابن عباس M، قال: أخبرنا ابن جريجٍ قال: أخبرني عثمان بن أبي سليمان، أنَّ نافع بن جبيرٍ أخبره أنَّ ابن عبّاسٍ أخبره قال: «إنِّي لصاحب المرأة الَّتي أتي بها عمر وضعت لستّة أشهرٍ، فأنكر النَّاس ذلك، فقلت لعمر: «لم تظلم؟» فقال: كيف؟ قال: قلت له: اقرأ: ﴿ وَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًا ﴾ [الأَحۡقَاف: 15]، وَقَالَ: ﴿ وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِۖ لِمَنۡ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ ﴾ [البَقَرَةِ: 233]، كم الحول؟ قال: سنةٌ. قال: قلت: «كم السَّنَةُ؟» قال: اثنا عشر شهرًا. قال: قلت: «فأربعةٌ وعشرون شهرًا، حولان كاملان ويؤخّر من الحمل ما شاء الله ويقدّم» فاستراح عمر إلى قولي»[2].

وحينئذٍ، تكون الفضيلة لابن عباس، وأيًّا ما كان الأمر، لو صحت القصة، فهي مجرد فضيلة لعلي بن أبي طالب، أو لابن عباس، وعمر، وعثمان M.

قال ابن عبد البر: «وفي الخبر بذلك فضيلةٌ كبيرة، وشهادة عادلة لعلي وابن عبّاسٍ في موضعهما من الفقه في دين الله، والمعرفة بكتاب الله»[3].

وأما الفضيلة للخليفة فتأتينا في ثانيًا.

ثانيًا: إنّ هذه الرواية دليل سعادة عمر I في الدنيا والآخرة، كونه وفّق لأصحاب صالحين يسددونه، وينصحونه، ويرشدونه للخير كله، ولا يقرونه على خلاف الحق.

روى المجلسي في «البحار»: «أنَّ النبيّ سليمان قال: لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا إلى من يصاحب، فإنَّما يعرف الرجل بأشكاله وأقرانه، وينسب إلى أصحابه وأخدانه»[4].

وقد كان علي بن أبي طالب نعم الرفيق لعمر بن الخطَّاب L، فقد روي عنه أنه قال: «إنَّما سمّي الرفيق رفيقًا؛ لأنَّه يرفقك على صلاح دينك، فمن أعانك على صلاح دينك فهو الرفيق»[5]، وقال أيضًا: «الصديق من كان ناهيًا عن الظلم والعدوان، معينًا على البرّ والإحسان»[6].

ولو كان عمر كما يزعمون، لَمَا جاز لعليٍّ أن يصاحبه، ولا أن يساكنه في بلدة واحدة، فقد رووا عن الإمام الصادق أنَّه قال: «لا تصحب الفاجر، فيعلّمك من فجوره»[7]، وعن مروان الأنباريّ قال: «خرج من أبي جعفرٍ S: إنّ الله إذا كره لنا جوار قومٍ نزعنا من بين أظهرهم»[8].

فإذا كان الله لم ينزع عليًّا من جوار عمر، فقد رضي له جواره، وقد رضي عليّ جواره تبعًا، وهذ دليل محبةٍ بلا شك، وإلا لوجب على عليّ أن يهاجر، ويترك أرض الظالمين التي استضعف فيها، ومن ثمَّ، فقد كان في مشورة عليّ لعمر منقبةٌ عظيمةٌ لعمر بنص هذه الروايات.

ثالثًا:   ليس في صريح الآيات التي ذكرها عليٌّ لعمر ما فهمه عليّ، وإنما هو اجتهاد قد يخالفه فيه كثيرٌ من العلماء؛ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية V -في معرض رده على تلك الرواية- «والجواب: أنَّ عمر كان يستشير الصَّحابة، فتارةً يشير عليه عثمان بما يراه صوابًا، وتارةً يشير عليه عليٌّ، وتارةً يشير عليه عبد الرَّحمن بن عوفٍ، وتارةً يشير عليه غيرهم، وبهذا مدح الله المؤمنين بقوله تعالى: ﴿ وَٱلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٣٨ ﴾ [الشُّورَى: 38] ، والنّاس متنازعون في المرأة إذا ظهر بها حملٌ ولم يكن لها زوجٌ ولا سيّدٌ، ولا ادّعت شبهةً: هل ترجم؟

فمذهب مالكٍ وغيره من أهل المدينة والسّلف: أنّها ترجم، وهو قول أحمد في إحدى الرّوايتين.

ومذهب أبي حنيفة والشَّافعي: لا ترجم، وهي الرِّواية الثَّانية عن أحمد، قالوا: لأنّها قد تكون مستكرهةً على الوطء، أو موطوءةً بشبهةٍ، أو حملت بغير وطءٍ... والولادة لستّة أشهرٍ نادرةٌ إلى الغاية، والأمور النّادرة قد لا تخطر بالبال، فأجرى عمر ذلك على الأمر المعتاد المعروف في النّساء، كما في أقصى الحمل، فإنَّ المعروف مِنَ النِّساءِ أنَّ المرأة تلد لتسعة أشهرٍ، وقد يوجد قليلًا من تلد لسنتين، ووجد نادرًا مَنْ وَلَدَتْ لِأَرْبَعِ سنين، ووجد مَنْ وَلَدَتْ لِسَبْعِ سنين، فإذا ولدت امرأةٌ بعد إبانة زوجها لهذه المدّة، فهل يلحقه النّسب؟ فيه نزاعٌ معروفٌ، وهذه من مسائل الاجتهاد.

فكثيرٌ من العلماء يحدّ لأقصى الحمل المدّة النّادرة، هذا يحدّ سنتين، وهذا يحدّ أربعًا، وهذا يحدّ سبعًا، ومنهم من يقول: هذا أمرٌ نادرٌ لا يلتفت إليه، وإذا أبانها وجاءت بالولد على خلاف المعتاد، مع ظهور كونه من غيره، لم يجب إلحاقه به»[9].

 وليس من شرط المجتهد أن يصيب في كل مسألةٍ باتفاق، وقد قال النبي H : «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمَّ أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثمَّ أخطأ، فله أجرٌ»[10].

فتبيّن من ذلك أن عمر مأجورٌ غير مأزور، عالم غير جاهل، بفضل الله تعالى.

رابعًا:     من المعلوم أن الكبير قد يتعلم من الصغير شيئًا، بل ويروي عنه حديثًا، ولا يقلل ذلك من قدر الكبير، وقد اشتهر بين أهل العلم مصطلح «رواية الأكابر عن الأصاغر».

قال الحافظ: «وإن روى عمن دونه، فالأكابر عن الأصاغر، ومنه الآباء عن الأبناء، وفي عكسه كثرة، ومنهم من روى عن أبيه عن جده، إذا روى الراوي عمن دونه في السن أو في القدر فليعلم أن هذا النوع يسمى رواية الأكابر عن الأصاغر.

قال ابن الصلاح: «ومن الفائدة فيه: أن لا يتوهم كون المروي عنه أكبر وأفضل من الراوي نظرًا إلى أن الأغلب كون المروي عنه كذلك، فيجهل بذلك منزلتهما، وقد صح عن عائشة J أنها قالت: أمرنا رسول الله H أن ننزل الناس منازلهم».

قال الحافظ العراقي في «شرح ألفيته»: «والأصل في هذا الباب رواية النبي عليه الصلاة والسلام عن تميم الداري، فالنبي H روى عن تميم الداري حديث الجساسة، وهو في «صحيح مسلم»، هذه من رواية الأكابر عن الأصاغر»[11].

وللحافظ ابن حجر جزءٌ لطيفٌ سمَّاه: «نزهة السامعين في رواية الصحابة عن التابعين».

وهذا لا يقلل من علم الصحابي، ولا يضع من قدره.

قال ابن حزم -في بيان فضل علم عمر على علم عليِّ بن أبي طالب I-: «وبرهان ذلك أن من عُمِّر من أصحاب رسول الله H عُمْرًا قليلا قل النَّقل عنهم، ومن طال عمره منهم كثر النّقل عنهم إلَّا اليسير من اكتفى بنيابة غيره عنه في تعليم النَّاس، وقد عاش عليّ بعد عمر بن الخطَّاب سبعة عشر عامًا غير أشهر، ومسند عمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثًا، يصح منها نحو خمسين، كالّذي عن عليّ سواء بسواء، فكل ما زاد حديث عليّ على حديث عمر تسعة وأربعون حديثًا في هذه المدّة الطّويلة، ولم يزد عليه في الصّحيح إلَّا حديثًا أو حديثين، وفتاوي عمر موازنة لفتاوي عليّ في أبواب الفقه، فإذا نسبنا مدّة من مدّة، وضربنا في البلاد من ضرب فيها، وأضفنا حديثًا إلى حديث، وفتاوي إلى فتاوي، علم كل ذي حس علمًا ضروريًّا أن الّذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند عليّ من العلم»[12].

خامسًا:   ورد في كتب الرَّافضة أنَّ عليّ بن أبي طالب I وغيره ممن ينسب إليهم الشيعة دينهم، كانوا يجهلون بعض المسائل، وقد سبق ذكر ذلك مرارًا، فإذا كان الجهل بالشيء يسقط إمامة صاحبه، فقد سقطت إمامة أئمتهم، وإلا فلا وجه للتشغيب على أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب I بمثل ذلك.

 

[1]   «الاستذكار» (7/491).

[2]   «مصنف عبد الرزاق الصنعاني» (7/352).

[3]   «الاستذكار» (7/493).

[4]   «بحار الأنوار»، المجلسي (71/188).

[5]   «تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم»، عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي (ص424).

[6]   السابق (ص415).

[7]   «الخصال»، الصدوق (1/161).

[8]   «علل الشرائع»، الصدوق (1/244).

[9]   «منهاج السُّنَّة النبوية» (6/93-95).

[10]  «صحيح مسلم»، كتاب الأقضية، باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (3/1342) برقم (1716).

[11]  انظر: «شرح نخبة الفكر» عبد الكريم الخضير (10/16 -17).

[12]  «الفصل في الملل والأهواء والنحل» (4/108- 109).