طعنهم في عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه لوضعه الخراج على أرض السواد

الشبهة: قال المجلسي -وهو يعدد المطاعن على أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه-: «ومنها: أنه وضع الخراج على أرض السواد، ولم يعط أرباب الخمس منها خمسهم، وجعلها موقوفة على كافة المسلمين» .
وقال محقق كتاب «الإيضاح» للفضل بن شاذان، جلالُ الدين الحسيني الأرموي المحدث - في تعليقه على هذا الموضوع -: «أقول: فالبدعة فيها من وجوه:
أحدها: منع أرباب الخمس حقهم، وهو مخالف لصريح آية الخمس وللسنة أيضًا؛ حيث ذكر ابن أبي الحديد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم خيبر وصيرها غنيمة، وأخرج خمسها لأهل الخمس، وكان الباعث على ذلك إضعاف جانب بني هاشم، والحذر من أن يميل الناس إليهم لنيل الحطام، فتنتقل إليهم الخلافة فينهدم ما أسسوه يوم السقيفة وشيدوه بكتابة الصحيفة.
وثانيها: منع الغانمين بعض حقوقهم من أرض الخراج، وجعلها موقوفة على مصالح المسلمين، وهذا إلزامي عليهم لما اعترفوا به من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم الأرض المفتوحة عنوة بين الغانمين، وبه أفتى الشافعي، وأنس بن مالك، والزبير، وبلال، كما ذكره المخالفون، وما ذكروه من أنه عوَّض الغانمين ووقفها فهو دعوى بلا ثبت، بل يظهر من كلام الأكثر خلافه، كما يستفاد من كلام ابن أبي الحديد وغيره.
وثالثها: أن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأراضي المفتوحة عَنْوَةً كانت أخذ حصته عليه السلام من غلتها دون الدراهم المعينة» .
وقال الحلي: «قال الشيخ : والذي يقتضيه المذهب أن هذه الأراضي وغيرها من بلاد خراج، ويخرج خمسها لأرباب الخمس، وأربعة الأخماس الباقية تكون للمسلمين قاطبة، الغانمون وغيرهم سواء في ذلك، ويكون للإمام النظر فيها ويقبلها ويضمنها بما شاء، ويأخذ ارتفاعها، ويصرفه في مصالح المسلمين وما ينوبهم من سد الثغور، وتقوية المجاهدين، وبناء القناطر، وغير ذلك من المصالح، وليس للغانمين في هذه الأرضين على وجه التخصيص شيء، بل هم والمسلمون فيه سواء، ولا يصح بيع شيء من هذه الأرضين، ولا هبته، ولا معاوضته، ولا تملكه، ولا وقفه، ولا رهنه، ولا إجارته، ولا إرثه، ولا يصح أن يبني دورًا ومنازل ومساجد ومسقايات، ولا غير ذلك من أنواع التصرف الذي يتبع الملك، ومتى فعل شيئًا من ذلك كان التصرف باطلًا هو باق على الأصل.
ثم قال: وعلى الرواية التي رواها أصحابنا أن كل عسكر أو فرقة غزت بغير أمر الإمام فغنمت، تكون الغنيمة للإمام خاصة، تكون هذه الأرضون وغيرها مما فتحت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا ما فتح في أيام أمير المؤمنين عليه السلام إن صح شيء من ذلك للإمام خاصة وتكون من جملة الأنفال التي له خاصة لا يشركه فيها غيره» .

الرد علي الشبهة:

أولًا:    إن أرض السواد هي الأرض المغنومة من الفرس التي فتحها عمر، وهي سواد العراق[1]، وأما فعل عمر بن الخطَّاب I فقد استدل عليه بالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، والمعقول، والمصالح الشرعية المعتبرة.

1-  استدل عمر بن الخطَّاب I لعدم تقسيمه للأرض على الفاتحين بكتاب الله.

روى البيهقي بإسناده: «عن زيد بن أسلم، عن أبيه أسلم قال: سمعت عمر I يقول: اجتمعوا لهذا المال، فانظروا لمن ترونه، ثمَّ قال لهم: إنّي أمرتكم أن تجتمعوا لهذا المال فتنظروا لمن ترونه، وإنّي قد قرأت آياتٍ من كتاب الله، سمعت الله يقول: ﴿ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ كَيۡ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٧ لِلۡفُقَرَآءِ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ ٨ ﴾ [الحَشۡر: 7- 8]، والله ما هو لهؤلاء وحدهم، ﴿ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٩ ﴾ [الحَشۡر: 9]، والله ما هو لهؤلاء وحدهم، ﴿ وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعۡدِهِمۡ ﴾ [الحَشۡر: 10] الآية، والله ما من أحدٍ من المسلمين إلَّا وله حقٌّ في هذا المال، أعطي منه أو منع، حتَّى راعٍ بعدن»[2].

ولذلك لما سئل عمر I عن التقسيم قال: «إنني لو قسمت عليكم هذا المال لما بقي شيء لمن جاء بعدكم، كما أمر الله في تقسيم الفيء في (سورة الحشر)».

ففي كتاب «الأموال» للقاسم بن سلام قال: «وأمّا ما جاء في ترك القسم، فإنَّ هشيم بن بشيرٍ حدَّثنا قال: أخبَرَنَا العوَّام بن حوشبٍ، عن إبراهيم التّيميّ قال: لَمَّا فتح المسلمون السّواد قالوا لعمر: اقسمه بيننا، فإنَّا افتتحناه عنوةً، قال: فأبى، وقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف إن قسمته أن تفاسدوا بينكم في المياه، قال: فأقرّ أهل السّواد في أرضيهم، وضرب على رءوسهم الجزية، وعلى أرضيهم الطّسق، ولم يقسم بينهم، قال أبو عبيدٍ: يعني: الخراج»[3].

وقال: «وحدَّثنا أبو الأسود، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، أنَّ عمر كتب إلى سعد بن أبي وقّاصٍ يوم افتتح العراق: «أما بعد، فقد بلغني كتابك أنَّ النَّاس قد سألوا أن تقسّم بينهم غنائمهم، وما أفاء الله عليهم، فانظر ما أجلبوا به عليك في العسكر من كراعٍ أو مالٍ فاقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك الأرضين والأنهار لعمّالها؛ ليكون ذلك في أعطياتِ المُسلِمِينَ، فإنَّا لو قسمناها بين من حضر لم يكن لمن بعدهم شيءٌ»[4].

قال أبو يوسف V: «فلمَّا افتتح السّواد شاور عمر I النَّاس فيه فرأى عامّتهم أن يقسّمه، وكان بلال بن رباحٍ من أشدّهم في ذلك، وكان رأي عبد الرحمن بن عوفٍ أن يقسّمه، وكان رأي عثمان وعليٍّ وطلحة رأي عمر رضي الله تعالى عنهم، وكان رأى عمر I أن يتركه ولا يقسّمه حتَّى قال عند إلحاحهم عليه في قسمته: اللَّهمَّ اكفني بلالا وأصحابه؛ فمكثوا بذلك أيّامًا حتَّى قال عمر I لهم: فقد وجدت حجّةً في تركه وأن لا أقسّمه قول الله تعالى: ﴿ لِلۡفُقَرَآءِ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ ٨ ﴾ [الحَشۡر: 8]، فتلى عليهم حتَّى بلغ قوله تعالى: ﴿ وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعۡدِهِمۡ ﴾ [الحَشۡر: 10]  .

قال: فكيف أُقسِّمُهُ لكم، وأدع من يأتي بغير قسمٍ؟ فأجمع على تركه وجمع خراجه وإقراره في أيدي أهليه ووضع الخراج على أرضيهم والجزية على رءوسهم»[5].

إذًا، استدل عمر بن الخطَّاب I على ما صنع بكتاب الله.

قال أبو عبيدٍ: «فقد تواترت الآثار في افتتاح الأرضين عَنْوةً بهذين الحكمين: أمّا الأوّل منهما فحكم رسول الله H في خيبر، وذلك أنَّه جعلها غنيمةً، فخمَّسها وقسَّمها، وبهذا الرَّأي أشار بلالٌ على عمر في بلاد الشَّام، وأشار به الزُّبير ابن العوَّام على عمرو بن العاص في أرض مصر، وبهذا كان يأخذ مالك بن أنسٍ، كذلك يروى عنه، وأمَّا الحكم الآخر فحكم عمر في السَّواد وغيره، وذلك أنَّه جعله فيئًا موقوفًا على المسلمين ما تناسلوا، ولم يخمِّسه، وهو الرَّأي الذي أشار به عليه عليّ ابن أبي طالبٍ I، ومعاذ بن جبلٍ I، وبهذا كان يأخذ سفيان بن سعيدٍ، وهو معروفٌ من قوله، إلَّا أنَّه كان يقول: الخيار في أرض العنوة إلى الإمام، إن شاء جعلها غنيمةً فخمَّس وقسَّم، وإن شاء جعلها فيئًا عامًّا للمسلمين، ولم يخمِّس ولم يقسِّم.

قال أبو عبيدٍ: وكلا الحكمين فيه قدوةٌ ومتَّبعٌ من الغنيمة والفيء، إلَّا أنَّ الذي أختاره من ذلك: يكون النّظر فيه إلى الإمام، كما قال سفيان، وذلك أنَّ الوجهين جميعًا داخلان فيه، وليس فعلُ النَّبي H بِرَادٍّ لفعل عمر، ولكنَّه H اتَّبع آيةً من كتاب الله تبارك وتعالى فعمل بها، واتَّبع عمر آيةً أخرى فعمل بها، وهما آيتان محكمتان فيما ينال المسلمون من أموال المشركين، فيصير غنيمةً أو فيئًا»[6].

فهذا هو الدليل من كتاب الله، وسنجيب عن آية الأنفال في الغنيمة في موضعها.

2-  إن عدم تقسيم عمر I لأرض السواد هو عمل بسنة النبي H ، وليس مخالفةً لها.

ولا شك أن السُّنَّة هي التفسير الصادق لكتاب الله، ولا يمكن أن يقول مسلم بأن النبي H يخالف كتاب الله، لكن الشيعة قالوا بأن النبي H قسم خيبر، فلماذا لم يستنَّ عمر بسنة رسول الله H في خيبر؟!

قلنا: الجواب من عدة أوجه:

( أ ) إن خيبر لم تقسم جميعها:

قال أبو عبيد: «وحدَّثنا يزيد بن هارون، حدَّثنا يحيى بن سعيدٍ أنَّ بشير ابن يسارٍ أخبره أنَّ رسول الله H لَمَّا أفاء الله عليه خيبر قسَّمها على ستّةٍ وثلاثين سهمًا، جمع كلّ سهمٍ منها مائة سهمٍ، وعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به، وقسَّم النصف الباقي بين المسلمين»[7].

وقد ذكر ذلك ابن قدامة في «المغني»؛ حيث قال: «وما استأنف المسلمون فتحه، فإن فتح عنوةً ففيه ثلاث رواياتٍ:

إحداهنّ: أنَّ الإمام مخيَّرٌ بين قسمتها على الغانمين، وبين وقفيَّتها على جميع المسلمين؛ لأنَّ كلا الأمرين قد ثبت فيه حجّةٌ عَنِ النَّبي H ، فإنَّ النَّبي H قسَّم نصف خيبر، ووقف نصفها لنوائبه، ووقف عمر الشَّام والعراق ومصر وسائر ما فتحه، وأقرَّه على ذلك علماء الصَّحابة وأشاروا عليه به، وكذلك فعل مَنْ بعده مِنَ الخلفاء، ولم يُعلم أحدٌ منهم قسم شيئًا مِنَ الأرض الَّتي افتتحوها.

والثانية: أنّها تصير وقفًا بنفس الاستيلاء عليها؛ لاتفاق الصَّحابة عليه، وقسمة النَّبي H خيبر كان في بدء الإسلام، وشدّة الحاجة، فكانتِ المصلحة فيه، وقد تعيَّنتِ المصلحة فيما بعد ذلك في وقف الأرض، فكان ذلك هو الواجب.

والثالثة: أنَّ الواجب قسمتها، وهو قول مالكٍ، وأبي ثورٍ؛ لأنّ النَّبي H فعل ذلك، وفعله أولى من فعل غيره، مع عموم قوله تعالى: ﴿ ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ ﴾ [الأَنفَال: ﵑﵔ] ، الآية يفهم منها أنَّ أربعة أخماسها للغانمين.

والرّواية الأولى أولى؛ لأنّ النَّبي H فعل الأمرين جميعًا في خيبر، ولأنَّ عمر قال: «لولا آخر النَّاس لقسمت الأرض كما قسم النَّبي H خيبر»، فقد وقف الأرض مع علمه بفعل النَّبي H فدلَّ على أنَّ فعله ذلك لم يكن متعيّنًا، كيف والنبيُّ H قد وقف نِصْفَ خيبر؟! ولو كانت للغانمين لم يكن له وقفها»[8].

ومن ثم نقول: إنه لو كانت خيبر للغانمين لم يجز وقفها.

(ب)    إذا قلتم بأن خيبر قسِّمت بين الغانمين فقد اتفقتم معنا بأن مكةَ وحنينًا فتحِتَا عَنْوَةً ولم يقسمهما رسول الله H .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «مَن تدبَّر الآثار المنقولة علم بالاضطرار أنَّ مكَّة فتحت عنوةً ومع هذا فالنبيُّ H لم يقسِّم أرضها، كما لم يسترقَّ رجالها، ففتح خيبر عنوةً وقسمها، وفتح مكَّة عنوةً ولم يقسمها، فعلم جواز الأمرين، والأقوال في هذا الباب ثلاثةٌ: إمَّا وجوب قسم العقار كقول الشَّافعي؛ وإمَّا تحريم قسمه ووجوب تحبيسه كقول مالكٍ؛ وإمَّا التّخيير بينهما كقول الأكثرين: الثوريِّ وأبي حنيفة، وأبي عبيدٍ، وهو ظاهر مذهب أحمد، وعنه كالقولين الأوَّلين»[9].

وأما عند الشيعة:

فقد قال البحراني: «والذي يظهر لي من الأخبار هو فتح مكة والعراق عنوة، وإن كان قد منَّ على أهل مكة كما تقدم في كلام الشيخ بأموالهم»[10].

وقال محمد حسين الغروي: «المنصوص عليه في الأخبار أن أرض العراق -المعبر عنها بأرض السواد- مفتوحة عنوة، وأنها فَيْءٌ المسلمين»[11].

وقال المنتظري: «ومن طريق الخاصة ما رواه الشيخ، عن صفوان بن يحيى وأحمد ابن محمد بن أبي نصر قالا: ذكرنا له الكوفة -إلى أن قال:- إن أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر، وإن مكة دخلها رسول الله H عنوة وكانوا أسراء في يده فأعتقهم وقال: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[12].

وقرر المنتظري أن مكة وحنينًا فتحتا عنوة، ولم يقسمهما رسول الله H فقال: «عدم تقسيم النبي H غنائم مكة وحنين بين المقاتلين، وقد فتحتَا عَنوة: لا يخفى أن ما في صحيفة زُرَارة السابقة من نقل عمل رسول الله H لعله إشارة إلى ما صنعه هو H في فتح مكة وهوازن؛ حيث إنهما فتحتا عنوة ولم يقسم هو H بين المقاتلين شيئًا»[13].

فهذه سُنَّة رسول الله H فيما فتح عنوة: قسَّم جزءًا من خيبر، ولم يقسم مكة ولا هوازن، ولو شئنا لقلنا بأن آخر الأمرين نسخ أولهما، فكان التقسيم هو المنسوخ، لكننا نقول: إن كل ذلك سُنة.

ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «حبس عمر وعثمان L للأرضين المفتوحة وترك قسمتها على الغانمين، فمن قال: إنَّ هذا لا يجوز قال: لأنَّ النَّبي H قسم خيبر، وقال: إنَّ الإمام إذا حبسها نقض حكمه لأجل مخالفة السُّنَّة، فهذا القول خطأٌ وجَرْأةٌ على الخلفاء الرّاشدين؛ فإنَّ فعل النَّبي H في خيبر إنَّما يدلُّ على جواز ما فعله لا يدلُّ على وجوبه، فلو لم يكن معنا دليلٌ يدلُّ على عدم وجوب ذلك لكان فعل الخلفاء الراشدين دليلًا على عدم الوجوب؛ فكيف وقد ثبت أنَّه فتح مكَّة عنوةً كما استفاضت به الأحاديث الصَّحيحة، بل تواتر ذلك عند أهل المغازي والسِّير؟!»[14].

إذًا فعدم تقسيم عمر لأرض السواد إنما هو سنة رسول الله H ، وكون عمر جعل الخراج على الأرض فذلك من سلطة الإمام، قال السرخسي: «وكلُّ بلدةٍ فتحها الإمام عَنوةً وقهرًا، ثمَّ منَّ بها على أهلها فهي أرض خراجٍ»[15].

وقال البحراني: «ويعضد ذلك حكم الأئمة Q بأن أرض السواد مما فتح عنوة -كما تقدم في «صحيحة الحلبي» ورواية أبي الربيع الشامي، ورواية أحمد ابن محمد بن أبي نصر- فإن الجميع ظاهر في أنها من الأراضي الخراجية التي يجب إجراء أحكام الأراضي الخراجية عليها»[16].

(جـ)   لا يجوز القياس على فعل النبي H في خيبر؛ لعدة فوارق، منها:

أن أرض خيبر ما هي إلا بلدة أو منطقة محدودة، ليست كسواد العراق، أو بلاد الشام أو أرض مصر، وكان أهلها دخلاء على جزيرة العرب، وطالما أفسدوا فيها، فكل هذه الاعتبارات رجَّحت تقسيم أرضهم على المقاتلين المنتصرين، بخلاف الأراضي التي رفض عمر I تقسيمها، فهي ليست منطقة أو قرية أو مدينة، بل هي أراضي وممالك وأقطار كبيرة، مثل: مصر، والشام، والعراق، وملاكها ليسوا دخلاء عليها كاليهود على الجزيرة، وإجلاؤهم عنها غير وارد ولا ممكن، فكان الخير والمصلحة للدنيا وللدين في إبقائها بيد أهلها، يحيونها ويعمرونها ويعملون فيها، ويفرض عليها خراج يعود إلى الدولة بصفة دورية، يكون رصيدًا للإنفاق على مصالح الأمة وسد ثغراتها، وتلبية حاجاتها.

ثانيًا:      إن عمل عمر I في أرض السواد إنما وقع برأي جمهور الصحابة، ومنهم علي بن أبي طالب I، وأجمع الشيعة على أن للإمام فعلَ ذلك.

أما جمهور الصحابة فقد سبق أن عمر بن الخطَّاب I استشارهم، فمنهم من أشار بالتقسيم، ومنهم من أشار بعدمه، وقد اتفق رأي عمر، وعلي، ومعاذ، وطلحة، وعثمان على عدم التقسيم، ومن الروايات التي جاءت في ذلك:

ما جاء في كتاب «الأموال» عن عمر: «أنَّه أراد أن يقسم السّواد بين المسلمين، فأمر أن يحصوا فوجد الرّجل يصيبه ثلاثةٌ من الفلّاحين، فشاور في ذلك، فقال له عليٍّ بن أبي طالبٍ: دعهم يكونوا مادّةً للمسلمين، فتركهم، وبعث عليهم عثمانَ بن حنيفٍ، فوضع عليهم ثمانيةً وأربعين»[17].

قال القاضي أبو يوسف: «وحدَّثني محمَّد بن إسحاق، عن جارية ابن مضرّبٍ، عن عمر بن الخطَّاب I أنَّه أراد أن يقسِّم السَّواد بين المسلمين، فأمر بهم أن يحصوا؛ فوجد الرَّجل يصيب الاثنين والثَّلاثة من الفلاحين، فشاور أصحاب محمّدٍ H فقال عليٌّ I: دعهم يكونوا مادَّةً للمسلمين»[18].

فهنا نجد أن الذي أشار على عمر I بعدم التقسيم هو علي بن أبي طالب I، وقد جاء في كتب الشيعة أن عليًّا قال لعمر: «اترك ذلك لمن جاء بعدنا من المسلمين».

فهذا الفضل بن شاذان يقول: «وروى شريك وغيره أن عمر أراد بيع أهل السواد فقال علِي صلوات الله عليه: إن هذا مال أصبتموه ولم تصيبوا مثله، فإن بعتهم بقي من يدخل في دين الله لا شيء له، قال: فما أصنع؟ قال: دعهم سكرة للمسلمين، فتركهم على أنهم عبيد»[19].

وقد أشار معاذ I عليه بذلك أيضًا:

جاء في كتاب «الأموال»: «حدَّثنا هشام بن عمَّارٍ الدّمشقيّ، عن يحيى بن حمزة قال: حدّثني تميم بن عطيّة العنسيّ قال: أخبرني عبد الله بن أبي قيسٍ أو عبدُالله ابنُ قيسٍ الهمدانيُ -شكّ أبو عبيدٍ- قال: قدم عمر الجابية، فأراد قسم الأرض بين المسلمين، فقال له معاذٌ: والله إذًا ليكوننَّ ما تكره، إنَّك إن قسمتها صار الرَّيع العظيم في أيدي القوم، ثمَّ يبيدون، فيصير ذلك إلى الرَّجل الواحد أو المرأة، ثمَّ يأتي من بعدهم قومٌ يسدُّون من الإسلام مسدًّا، وهم لا يجدون شيئًا، فانظر أمرًا يسع أوَّلهم وآخرهم»[20].

وأما عند الشيعة:

فيقول الطوسي: «ما أخذ بالسيف عنوة، وهي أرض الخراج، وهي للمسلمين قاطبة يقبلها الإمام لمن شاء بما يراه، أو من يقوم مقامه، ويصرف ذلك إلى مصالح المسلمين كافة»[21].

بل قالوا: إن للشيعة التصرفَ في الأرض في عصر الغيبة، فضلًا عن الإمام، يقول الحلي: «كلُّ ما يخصُّ الإمام من الأرضين الموات، ورؤوس الجبال، وبطون الأودية والآجام، ليس لأحد التصرّف فيها مع ظهور الإمام S إلَّا بإذنه، وسوَّغوا لشيعتهم حال الغيبة التصرّف فيها بمجرّد الإذن منهم»[22].

ويقول محمد حسن النجفي: «قد يقال بصدور الإذن منهم Q في ذلك، ففي «قاطعة اللجاج» قد سمعنا أن عمر استشار أمير المؤمنين S في ذلك، ومما يدل عليه فعل عَمَّار فإنه من خلفاء أمير المؤمنين S، ولولا أمره لما ساغ له الدخول في أمرها، «وفي الكفاية»: الظاهر أن الفتوح التي وقعت في زمن عمر كانت بإذن أمير المؤمنين S؛ لأن عمر كان يشاور الصحابة، خصوصًا أمير المؤمنين S في تدبير الحروب وغيرها، وكان لا يصدر إلا عن رأي علي S، وكان النبي H قد أخبر بالفتوح وغلبة المسلمين على الفرس والروم، وقبول سلمان تولية المدائن وعَمَّار إمارة العساكر، مع ما روي فيهما قرينة على ذلك، وعن الصدوق أنه روي مرسلًا استشارة عمر عليًّا S في هذه الأراضي، فقال: دعها عدة للمسلمين»[23].

قال الطوسي: «وروي أن عمر استشار عليًّا S في أرض السواد، فقال له عليٌّ S: «دعها عدة المسلمين»، ولم يأمره بقسمتها، ولو كان واجبًا لكان يشير إليه بالقسمة»[24].

فهذا رأي علي بن أبي طالب I وأغلب الصحابة، ولذلك فقد روى أبو يوسف في كتاب «الخراج» قال: «...فاستشار المهاجرين الأوَّلين، فاختلفوا؛ فأمَّا عبد الرَّحمن بن عوفٍ I فكان رأيُه أن تقسَّم لهم حقوقُهم، ورأَى عثمانُ، وعليٌّ، وطلحةُ، وابنُ عمر M رأيَ عمر، فأرسل إلى عشرةٍ من الأنصار: خمسةٍ من الأوس، وخمسةٍ من الخزرج، من كبرائهم وأشرافهم، فلمَّا اجتمعوا حَمِد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثمَّ قال:... فقالوا جميعًا: الرَّأي رأيك، فنعم ما قلت وما رأيت، وإن لم تشحن هذه الثُّغور وهذه المدن بالرِّجال، وتجري عليهم ما يتَقوَّون به رجع أهل الكفر إلى مدنهم»[25].

فهذا يدل على أن أهل المشورة من المهاجرين والأنصار اجتمعوا على رأي عمر I، وذلك في كتب السُّنَّة والشيعة.

ثالثًا:   قد أجمع الشيعة على أن العقار في أرض السواد لا يقسم.

قال الطوسي في «التبيان»: «فالغنيمة كل ما أخذ من دار الحرب بالسيف عنوة مما يمكن نقله إلى دار الإسلام، وما لا يمكن نقله إلى دار الإسلام فهو لجميع المسلمين ينظر فيه الإمام، ويصرِفُ انتفاعه إلى بيت المال لمصالح المسلمين»[26].

وقد سبق ذكر قوله في «المبسوط»: «ظاهر المذهب أن النبي H فتح مكة عنوة بالسيف ثم أمنهم بعد ذلك، وإنما لم يقسم الأرضين والدور؛ لأنها لجميع المسلمين، كما نقوله في كل ما يفتح عنوة إذا لم يمكن نقله إلى بلد الإسلام، فإنه يكون للمسلمين قاطبة، ومَنَّ النبي H على رجال من المشركين فأطلقهم، وعندنا أن للإمام أن يفعل ذلك، وكذلك أموالهم منَّ عليهم بها لما رآه من المصلحة»[27].

وقال المجلسي: «قال الشيخ: والذي يقتضيه المذهب أن هذه الأراضي وغيرها من بلاد خرج ويخرج خمسها لأرباب الخمس، وأربعة الأخماس الباقية تكون للمسلمين قاطبة، الغانمون وغيرهم سواء في ذلك، ويكون للإمام النظر فيها، ويقبلها، ويضمنها بما شاء، ويأخذ ارتفاعها ويصرفه في مصالح المسلمين، وما ينوبهم من سد الثغور، وتقوية المجاهدين، وبناء القناطر، وغير ذلك من المصالح.

وليس للغانمين في هذه الأرضين -على وجه التخصيص- شيء، بل هم والمسلمون فيه سواء، ولا يصح بيع شيء من هذه الأرضين، ولا هبته، ولا معاوضته، ولا تملكه، ولا وقفه، ولا رهنه، ولا إجارته، ولا إرثه، ولا يصح أن يبني دورًا، ومنازل، ومساجد، ومسقايات، ولا غير ذلك من أنواع التصرف الذي يتبع الملك، ومتى فعل شيئًا من ذلك كان التصرف باطلًا هو باق على الأصل.

ثم قال: وعلى الرواية التي رواها أصحابنا أن كل عسكر أو فرقة غزت بغير أمر الإمام فغنمت، تكون الغنيمة للإمام خاصة، تكون هذه الأرضون وغيرها مما فتحت بعد الرسول H -إلا ما فتح في أيام أمير المؤمنين S، إن صح شيء من ذلك- للإمام خاصة، وتكون من جملة الأنفال التي له خاصة لا يشركه فيها غيره»[28].

بل قد وردت روايات تدلُّ على أنَّ أرض السواد ملك للمسلمين، كصحيحة الحلبي، قال: «سئل أبو عبد الله S عن السواد ما منزلته؟ فقال: هو لجميع المسلمين، لمن هو اليوم، ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم، ولمن لم يخلق بعد»[29].

فلماذا إذًا يشغب الشيعة بأمرٍ يقررون صحته في عقيدتهم؟!

رابعًا:   إن مفهوم آية الأنفال ليس قطعيًّا في العقار.

لا يملك فقيه بصير بالقرآن وباللغة ودلالتها أن يزعم أن الآية الكريمة تدل على ذلك دلالة قطعية؛ لأن حقيقة ما يغنمه الإنسان في الحرب ما يحوزه بالفعل ويستولى عليه، وهذا معقول ومشاهد في الكراع، والسلاح، والثياب، والنقود، والأدوات، ونحوها مما يمكن أخذه وحمله ونقله، بخلاف الأراضي الشاسعة، والسهول الواسعة، والجبال الشامخة، والأنهار العظيمة، فمن ذا الذي يقول: إنه حازها واستولى عليها إلا بضرب من التجوز والتوسع في الاستعمال اللغوي،
لا على الحقيقة؟

قال علي أصغر مرواريد: «ما لا ينقل ولا يحول من الدور والعقارات والأرضين، عندنا أن فيه الخمس فيكون لأهله، والباقي لجميع المسلمين من حضر القتال، ومن لم يحضر فيصرف ارتفاعه إلى مصالحهم... دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وروي أن النبي H فتح هوازن ولم يقسم أرضها بين الغانمين، فلو كانت للغانمين لقسمها فيهم، وروي أن عمر فتح قرى بالشام فقال له بلال: اقسمها بيننا، فأبى عمر ذلك، وقال: اللهم اكفني شر بلال وذريته، فلو كانت القسمة واجبة لكان يفعلها عمر I، وروي أن عمر استشار عليًّا I في أرض السواد فقال عليٌّ S: دعها عدة للمسلمين، ولم يأمره بقسمتها، ولو كان واجبًا لكان يشير عليه بالقسمة»[30].

وذلك هو فقه الصحابة لما أشاروا بعدم التقسيم؛ لأنهم رأوا أنهم لم يغنموا هذه الأرض على وجه الحقيقة، وعليه فلا دليل في آية الغنيمة على توزيع الأرض إلا من باب التجوُّز؛ لأنها في المنقولات وما أشبهها؛ لذلك توقف الصحابة الذين فتحوا البلاد عن تقسيم الأرض لما طالبهم البعض بالتقسيم انتظارًا لرأي الخليفة عمر I، ولو كان دخول الأرض المفتوحة في مفهوم الغنيمة أمرًا مقررًا، أو تشريعًا ثابتًا، لما اختلف فيه أحد، أو حدث فيه نزاع وخلاف، ومناقشات طويلة، وانقسام في الرأي، فعبد الرحمن بن عوف، ومن تابعه من المسلمين -مثل الزبير وبلال- كانوا يرون قسمة الأرض، وعثمان، وعلِي، وطلحة، وابن عمر، ومن تابعهم كانوا يرون ألا تقسم بين الفاتحين، ودارت المناقشات الطويلة التي سجلتها كتب الأموال والتاريخ، والتي أخذنا صورة منها، فهل يمكن أن نتصور -بعد كل هذا الخلاف بين المحاربين وقوادهم، ثم بين كبار الصحابة في المدينة- أن الأرض المفتوحة كان فيها تشريع معين جاء به القرآن والتزم به الرسول H ؟

ومن ثم؛ فلا نستطيع أن نسلم بأن دخول الأرض تحت مفهوم الغنيمة -بتقسيم أربعة أخماسها بين الفاتحين- كان أمرًا مقررًا أو تشريعًا ثابتًا لا يجادل فيه أحد، كما لم يجادل أحد في الأموال المنقولة والأمتعة التي غنمها المسلمون بعد القتال.

خامسًا:  إن حكم الأرض المفتوحة يُبنى على المصلحة التي يراها الإمام والمسلمون معه؛ ليضعوا لها التشريعات المناسبة بحسب اجتهادهم، وتحريهم الحق والصالح العام، كل في عصره، مع التزامهم في كل ذلك بالنصوص العامة التي جاءت بها الشريعة.

قال ابن نجيم: «إذا كان فعل الإمام مبنيًّا على المصلحة فيما يتعلَّق بالأمور العامَّة لم ينفذ أمره شرعًا إلَّا إذا وافقه، فإن خالفه لم ينفذ، ولهذا قال الإمام أبو يوسف V في كتاب الخراج من باب إحياء الموات: وليس للإمام أن يخرج شيئًا من يد أحدٍ إلَّا بحقٍّ ثابتٍ معروفٍ.

وقال قاضي خان في «فتاويه من كتاب الوقف»: «ولو أنَّ سلطانًا أَذِنَ لقومٍ أن يجعلوا أرضًا من أراضي البلدة حوانيت موقوفةً على المسجد أو أمرهم أن يزيدوا في مسجدهم، قالوا: إن كانت البلدة فتحت عنوةً، وذلك لا يضرُّ بالمارِّ والنَّاس ينفذ أمر السّلطان فيها، وإن كانت البلدة فتحت صلحًا تبقى على ملك ملّاكها، فلا ينفذ أمر السّلطان فيها»[31].

ولذلك راعى الشرع تغير مصلحة الناس في كل عصر من الأعصار، فترك بعض الأمور للناس ليواجهوا مشكلات عصرهم ويجتهدوا فيها، محاولين الاهتداء إلى الصالح العام، وفي إحالة هذه الأمور إلى الناس تشريع لها، فلم تترك إذًا بغیر تشريع، وبخاصة أن هذه الإحالة مقيدة بالالتزام التشريعي السابق، فإذا خالف ولي الأمر هذا الالتزام فلا حق على الناس في الطاعة، كما قال ابن نجیم.

سادسًا:  إن السياسة العمرية في الأرض المفتوحة، فضلًا عن أنها كانت ضد مصلحة عمر الشخصية، فقد كان فيها غاية تحقيق العدل، فقد ألغى عمر نصيبه من الفيء، وهو خمس الأرض لو قسمت، وضحى بذلك من أجل مصلحة الإسلام، ولأجل الأجيال القادمة إلى يوم القيامة.

روى ابن زنجويه في كتاب «الأموال» بسنده: «عن مالك بن أوس بن الحدثان النّصريّ قال: ذكر عمر بن الخطَّاب يومًا الفيء، فقال: ما لكم أيُّها النَّاس لا تَكَلَّمونَ؟ أما والله ما أنا بأحقّ بهذا الفيء منكم، وما أحدٌ منّا بأحقّ به من أحدٍ، إلَّا أنّا على منازلنا من كتاب الله وقسم رسوله، الرّجل وقدمه، والرّجل وبلاؤه، والرّجل وعياله، والرّجل وحاجته، وما منّا أحدٌ من المسلمين إلَّا وله في هذا الفيء حقٌّ، أعطيه أو منعه إلَّا عبدًا مملوكًا، ولئن بقيت ليبلغنَّ الرّاعي وهو في جبال صنعاء حقُّه من فَيءِ الله»[32].

ولذلك قال عمر I لما أرادوا منه التقسيم: «إِذَنْ أترك مَنْ بعدكم من المسلمين لا شيء لهم»[33].

قال أبو يوسف: «والذي رأى عمر I من الامتناع من قسمة الأرضين بين من افتتحها عندما عرَّفه الله ما كان في كتابه من بيان ذلك توفيقًا من الله كان له فيما صنع، وفيه كانت الخيرة لجميع المسلمين وفيما رآه من جمع خراج ذلك وقسمته بين المسلمين عموم النّفع لجماعتهم؛ لأنّ هذا لو لم يكن موقوفًا على النَّاس في الأعطيات والأرزاق لم تشحنِ الثّغور، ولم تقو الجيوش على السّير في الجهاد، ولما أمن رجوع أهل الكفر إلى مدنهم إذا خلت من المقاتلة والمرتزقة، والله أعلم بالخير حيث كان»[34].

وكان من أهم آثار قرار عمر I القضاء التام على نظام الإقطاع الظالم، الذي يحتكر فيه طائفة قليلة من الناس الأرض كلها لصالحهم، ثم يستعبد الفلاحون لزراعتها مجانًا، فبقيت الأرض في أيدي الفلاحين مقابل دفع مبلغ قليلٍ جدًّا (الخراج)، وهذا جعلهم يشعرون بأنهم ملّاك لا عبيد، كما كان الفرس يفعلون معهم، مما جعلهم يحبون الإسلام والمسلمين، ويبغضون الفرس.

ولذلك فقد روى الإمام الطبري في «تاريخه»: «أن رستم دعا أهل الحيرة وسرادقه إلى جانب الدير، فقال: يا أعداء الله، فرحتم بدخول العرب علينا بلادنا، وكنتم عيونًا لهم علينا، وقويتموهم بالأموال»[35].

وكان هذا كله تحقيقًا لقول الله تعالى: ﴿ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ كَيۡ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٧ ﴾ [الحَشۡر: 7]، فبدَّد الشارعُ بقوله: ﴿ كَيۡ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡ ﴾ [الحَشۡر: 7] ، ركائزَ نظام الرأسمالية الذي يؤثر مصلحة الجيل الحاضر فحسب، كما قوَّض دعائمَ نظام الاشتراكية التي تتطرف إلى حد التضحية بجيل أو أجيال قادمة.

فكان ذلك القرار هو القرار الصائب الموافق القرآن والسُّنَّة، الذي فيه الخير كله، من جهة توفير المال لخزينة الدولة؛ لسد الثغور، وتسليح الجيوش، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وقطع الطريق على عودة جيوش الفرس والروم بعد خروجهم، وهذا بلا شك عمل بالمصالح الشرعية المعتبرة، فضلًا عن العمل بكتاب الله وسنة رسوله H كما أسلفنا.


[1]   انظر: «المبسوط في فقه الإمامية»، الطوسي (2/33).

[2]   «السنن الكبرى»، البيهقي (6/571).

[3]   «الأموال»، القاسم بن سلام (ص71).

[4]   السابق (ص74).

[5]   «الخراج»، أبو يوسف (ص45 -46).

[6]   «الأموال»، القاسم بن سلام (ص74).

[7]   السابق (ص71).

[8]   «المغني»، ابن قدامة (3/23).

[9]   «مجموع الفتاوى» (20/575 -576).

[10]  «الحدائق الناضرة»، المحقق البحراني (18/310).

[11]  «حاشية كتاب المكاسب»، محمد حسين الغروي الأصفهاني (3/66).

[12]  «دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية»، المنتظري (3/142).

[13]  السابق نفسه.

[14]  «مجموع الفتاوى» (20/574).

[15]  «المبسوط»، السرخسي (3/8).

[16]  «الحدائق الناضرة»، البحراني (18/307).

[17]  «الأموال»، القاسم بن سلام (ص74).

[18]  «الخراج»، أبو يوسف (ص47).

[19]  «الإيضاح»، الفضل بن شاذان (ص478).

[20]  «الأموال»، القاسم بن سلام (ص74).

[21]  «الرسائل العشر»، الطوسي (ص203).

[22]  «تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية»، الحلّي (2/172).

[23]  «جواهر الكلام»، محمد حسن النجفي الجواهري (21/161).

[24]  «الخلاف»، الطوسي (4/196).

[25]  «الخراج»، أبو يوسف (ص35-36).

[26]  «التبيان»، الطوسي (9/563).

[27]  «المبسوط»، الطوسي (2/32).

[28]  «بحار الأنوار»، المجلسي (31/17- 18).

[29]  «وسائل الشيعة»، الحر العاملي (17/369).

[30]  «الينابيع الفقهية»، علي أصغر مرواريد (٢١/٣٥).

[31]  «الأشباه والنظائر»، ابن نجيم (ص106).

[32]  «الأموال»، ابن زنجويه (2/566).

[33]  «الخراج»، أبو يوسف (ص37).

[34]  السابق (ص38).

[35]  «تاريخ الطبري» (3/508).