جعل الشيعة المسألة المشتركة من المطاعن على أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه

الشبهة: يعدِّد محمد طاهر القمي الشيرازي المطاعن التي في أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه فيقول: «ومنها: ما نقله «صاحب القاموس» من علماء السُّنَّة، وهذه عبارته: المشركة كمعظمة، ويقال: المشتركة زوج، وأم، وأخوان لأم، وأخوان لأب وأم، حكم فيها عمر، فجعل الثلث للأخوين لأم، ولم يجعل للأخوين للأب والأم شيئًا، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، هب أن أبانا كان حمارًا فأشركنا بقرابة أمنا، فأشرك بينهم، فسميت مشركة ومشتركة وحمارية» .
وقال الأميني معلقًا على حكم عمر في المسألة المشتركة: «كأن أحكام القضايا تدور مدار ما صدر عن رأي الخليفة، سواء أصاب الشريعة أم أخطأ، وكأن الخليفة له أن يحكم بما شاء وأراد، وليس هناك حكم يتبع وقانون مطرد في الإسلام، ولعلَّ هذا أفظع من التصويب المدحوض بالبرهنة القاطعة» .

الرد علي الشبهة:

أولًا: لما ذكر الشيعة هذا الأمر على أنه من المطاعن على أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب I لم يبينوا وجه المخالفة فيه. وهذا دليل على جهلهم بمخرج المسألة، وعلى أي قاعدة تأصلت، وما وجه الصواب فيها، وهذا يكفي في إسقاط اعتراضهم، وبيان سخافة طرحهم.

ثانيًا: إن المسألة المشتركة صورتها: أن تُخَلِّف امرأةٌ زوجًا وأمًّا (أو جدة) وعددًا من أولاد الأم، وأخًا شقيقًا أو أكثر، بشرط أن يوجد بينهم ذكر.

روى البيهقي بإسناده: «عن إبراهيم، عن عمر، وعبد الله، وزيدٍ M أنّهم قالوا: للزّوج النّصف، وللأم السدس، وأشركوا بين الإخوة من الأب والأم والإخوة من الأمّ في الثّلث، وقالوا: ما زادهم الأب إلا قربًا»[1].

وقد اختلف أصحاب النبي H في هذه المسألة، وسبب الخلاف أنها لم ترد نصًا في الكتاب والسُّنَّة، وإنما هي من فروع قوله تعالى: ﴿ وَإِن كَانَ رَجُلٞ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ ٱمۡرَأَةٞ وَلَهُۥٓ أَخٌ أَوۡ أُخۡتٞ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ ﴾ [النِّسَاء: 12]، فقد قالوا: إن الكلالة من لا ولد له ولا والد، والمراد بالأخ والأخت هنا الإخوة لأم فقط؛ لأن الكلام في ميراثها.

فقال بعض الصحابة: إن القاعدة في الإرث أن يأخذ أصحاب الفرائض فروضهم، ويأخذ العصبات الباقي؛ لحديث ابن عبَّاسٍ عن النَّبي H قال: «أَلحِقُوا الفَرَائضَ بأهلِهَا، فما تركَتِ الفرائضُ فلِأَوْلى رَجُلٍ ذكرٍ»[2].

فمن قال بعدم التشريك نظر إلى أصل القاعدة، وهذا قول عليٍّ، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد بن حنبلٍ في المشهور عنه[3].

وأما القول الثاني الذي قضى بالتشريك بين الإخوة لأم والأشقاء، وهو قول عمر الأخير، وقول زيدٍ، وهو قول مالكٍ، والشَّافعي؛ فإنَّهما وغيرهما مقلّدان لزيدٍ في الفرائض، وهي رواية حربٍ عن أحمد بن حنبلٍ[4].

ولهذا القول أدلة ترجع كلها إلى الاستحسان الممدوح، والاستحسان عرفه أهل العلم بأنه: قياس خفيت علته بالنسبة لقياس ظاهر متبادر[5].

وقد نقل الشوكاني عن القفّال قوله: «إن كان المراد بالاستحسان ما دلت عليه الأصول بمعانيها، فهو حسنٌ؛ لقيام الحجّة به، قال: فهذا لا ننكره ونقول به، وإن كان ما يقع في الوهم من استقباح الشّيء واستحسانه، من غير حجّةٍ دلَّت عليه، من أصل ونظيره، فهو محظورٌ، والقول به غير سائغٍ»[6].

وهذا الاستحسان ذهب إليه عمر بن الخطَّاب I ومن قبله زيد بن ثابت، كما عند الحاكم: «عن زيد بن ثابتٍ، في المشتركة قال: «هبوا أنَّ أباهم كان حمارًا ما زادهم الأب إلَّا قربًا، وأشرك بينهم في الثّلث» هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه»[7].

وهذا الاستحسان تقريره من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: لو كان ولد الأم بعضهم ابن عم لشارك الإخوة لأم بقرابة الأم، فورث معهم من هذه الجهة، وإن سقطت عصبته التي هي جهة كونه ابن عم، قالوا: فالأخ الشقيق أولى من ابن العم.

وصورة المسالة حتى تتضح: ماتت عن: أخ لأم، وأخ لأم هو ابن عم، وعن عم، فابن العم ليس له التعصيب؛ لوجود عاصب أقرب منه، فإذا حجب عن التعصيب فلا يسقط فرضه، ويرث على أنه أخ لأم.

فيتقرر من هنا قاعدة: «إذا بطلت إحدى الجهتين بقيت الأخرى».

قالوا: فالأخ الشقيق أولى؛ لأنه أخ لأم وهو قريب من جهة الأب، فإذا أبطلت الإرث من جهة الأب عن طريق التعصيب فلا يسقط من جهة الأم، وهذا استحسان من أروع ما أنت قارئ؛ ولذا قضى به عمر I.

الوجه الثاني: أنها فريضة جمعت ولد الأبوين وولد الأم، وهم من أهل الميراث، فإذا ورث ولد الأم ورث ولد الأبوين كما لو لم يكن فيها زوج، فلو لم يكن في المسألة زوج لورث الإخوة الأشقاء قطعًا وجزمًا، فوجود الزوج لا ينبغي أن يكون سببًا في منع الإخوة الأشقاء عن الميراث؛ لأنه لا قوة للزوج ليطرد الإخوة الأشقاء.

وعليه: إذا لم يبق للأشقاء شيء يشركهم مع الإخوة لأم؛ لأنهم يدلون بأم واحدة، فإذا ورث الإخوة لأم ينبغي أن يرث الإخوة الأشقاء، وهذا استحسان مبني على قواعد العدالة التي بني عليها الميراث.

الوجه الثالث: أن الإرث موضوع على تقديم الأقوى على الأضعف، وأدنى أحوال الأقوى مشاركته للأضعف، فليس في أصول الميراث سقوط الأقوى بالأضعف، وولد الأب والأم أقوى من ولد الأم لمساواته له في الإدلاء بالأم وزيادة الأب، فإن لم يزده الأب قوة لم يضعفه.

وأسوأ الأحوال أن يكون وجوده كعدمه، فهنا الإخوة الأشقاء يدلون بقرابتين، والإخوة لأم يدلون بأم، وهؤلاء يشاركونهم في هذه الأم؛ فكيف يعقل أن يسقط الأشقاء ويرث الإخوة لأم؟ وهذا استحسان قوي، قال العنبريّ: هذه وساطةٌ مليحةٌ، وعبارةٌ صحيحةٌ[8].

ولجميع ما ذكرنا من الأدلة الشرعية المعتبرة قضى الخليفة الراشد عمر I بهذا القضاء.

ثالثًا:      إن هذه المسألة من المسائل التي تتقارب فيها الأدلة جدًّا، ولذلك فقد نقل عن عمر فيها قضاءان، وكذلك عثمان نقل عنه قضاءان أيضًا، وابن عباس، وابن مسعود كلهم نقل عنهم قضاءان في هذه المسألة كقضاء عمر، فهذا يدل على تقارب الأدلة في المسألة.

قال ابن تيمية: «واختلف في ذلك عن عمر وعثمان وغيرهما منَ الصَّحابة، حتَّى قيل: إنَّه اختلف فيها عن جميع الصَّحابة إلَّا عليًّا وزيدًا؛ فإنَّ عليًّا لم يختلف عنه أنَّه لم يشرك، وزيدٌ لم يختلف عنه أنَّه يشرك. قال العنبريّ: القياس ما قال عليٌّ، والاستحسان ما قال زيدٌ»[9].

ويؤخذ من هذا قاعدة، وهي: «أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد»، وهذا معنى قول عمر: «تلك على ما قضينا، وهذا على ما قضينا»[10].

فقوله هذا فيه إشارة إلى قاعدة مقررة مشهورة، وهي أن الاجتهاد لا ينقض باجتهاد، وبما أنه ما ثمَّ نص في القضية، ونحن نجتهد للوصول إلى مراد الله في هذه المسألة، فلا ينقض اجتهاد باجتهاد؛ ولذلك لم يثرّب الصحابة M بعضهم على بعض.

يقول الشاطبي: «ووجدنا أصحاب رسول الله H من بعده قد اختلفوا في أحكام الدِّين ولم يتفرّقوا، ولا صاروا شيعًا؛ لأنّهم لم يفارقوا الدِّين، وإنَّما اختلفوا فيما أذن لهم من اجتهاد الرَّأي، والاستنباط من الكتاب والسُّنَّة فيما لم يجدوا فيه نصًّا، واختلفت في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين؛ لأنّهم اجتهدوا فيما أمروا به كاختلاف أبي بكرٍ وعمر وعليٍّ وزيدٍ في الجدّ مع الأمّ، وقول عمر وعليٍّ في أمّهات الأولاد، وخلافهم في الفريضة المشتركة»[11].

وروى الخطيب البغدادي عن سفيان قال: «ما اختلف فيه الفقهاء، فلا أنهى أحدًا من إخواني أن يأخذ به»[12].

وروى عنه أيضًا: «إذا رأيت الرّجل يعمل العمل الّذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه»[13].

وبه يثبت أنه لا يجوز التشغيب على أصحاب النبي H بعمل هم مأجورون عليه إما أجرًا واحدًا، وإما أجرين.

وروى ابن أبي شيبة بسنده عن قبيصة بن جابرٍ قال: «ما رأيت رجلًا أعلم بالله، ولا أقرأ لكتاب الله، ولا أفقه في دين الله من عمر»[14].

رابعًا:   إن الشيعة قد خالفوا في هذه المسألة كتاب الله تعالى، وخالفوا علي بن أبي طالب I.

فهذه المسألة جوابها -على قواعد الشيعة-: أن يأخذ الزوج فرضه، وهو النصف، والباقي للأم فرضًا وردًّا، وليس لواحد من الإخوة شيء مطلقًا مع وجود الأم!

قلت: وهذا مخالف لكتاب الله؛ لأن الله قال: ﴿ وَإِن كَانَ رَجُلٞ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ ٱمۡرَأَةٞ وَلَهُۥٓ أَخٌ أَوۡ أُخۡتٞ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُۚ فَإِن كَانُوٓاْ أَكۡثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمۡ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِ ﴾ [النِّسَاء: 12] .

وهذه المسألة كلالة بلا شك، والزوج قد أخذ النصف، والأم السدس؛ لتعدد الإخوة، وبقي الثلث الذي هو نصيب الإخوة لأم كما ذكرت الآية صراحة، فهذه مخالفة صريحة ومعارضة لكتاب الله، بل معاندة لنص واضح صريح.

وأما مخالفتهم لعلي بن أبي طالب I فالثابت أن عليًّا حكم فيها بأن الثلث للإخوة لأم، كما روى البيهقي وغيره: «عن أبى مجلزٍ، أن عثمان بن عفَّان I شرّك بين الإخوة من الأمّ والإخوة من الأب والأمّ في الثّلث، وأنَّ عليًّا I لم يشرّك بينهم»[15].

وفي «مصنف ابن أبي شيبة» عن فضيلٍ، عن إبراهيم، في امرأةٍ تركت زوجها وأمّها وإخوتها لأبيها[16] وأمّها وإخوتها لأمها، «فلزوجها النّصف ثلاثة أسهمٍ، ولأمّها السّدس سهمٌ، ولإخوتها لأمِّها الثّلث سهمان، ولم يجعل لإخوتها لأبيها وأمّها من الميراث شيئًا في قضاء عليٍّ»[17].

قال البيهقي: «فهو عن علىّ I مشهورٌ»[18].

فهذا قضاء علي بن أبي طالب I بأن يرث الإخوة لأم مع أمهم؛ موافقة لكتاب الله، لكن الشيعة أبوا إلا مخالفة الكتاب والسُّنَّة وأهل البيت.

 

[1]   «السنن الكبرى»، البيهقي (12/578).

[2]   «صحيح البخاري»، كتاب الفرائض، باب: ميراث الولد من أبيه وأمه (8/153) برقم (6351)، «صحيح مسلم»، كتاب الفرائض، باب: «أَلحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا» (3/1233) برقم (1615).

[3]   «منهاج السُّنَّة النبوية» (6/98).

[4]   السابق نفسه.

[5]   «أصول الفقه»، الخضري (ص٣٦٧).

[6]   «إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول» (2/183).

[7]   «المستدرك على الصحيحين»، الحاكم (4/374).

[8]   «مجموع الفتاوى»، ابن تيمية (31/339).

[9]   السابق نفسه.

[10]  «السنن الكبرى»، البيهقي (12/575)، وأخرجه ابن أبى شيبة (31620)، والبخاري في «تاريخه» (2/332) من طريق ابن المبارك به.

[11]  «الاعتصام» (2/734).

[12]  «الفقيه والمتفقه» للخطيب البغدادي (2/135).

[13]  السابق (2/136).

[14]  «مصنف ابن أبي شيبة» (6/355).

[15]  «السنن الكبرى»، البيهقي ت. التركي (12/577)، «مصنف عبد الرزاق الصنعاني» (10/251).

[16]  الصواب: وإخوتها لأمها، فالكلام مسوق لبيان حال الإخوة لأم مع الإخوة الأشقاء، والنص به خلل في طبعة مكتبة الرشد، بتحقيق كمال يوسف الحوت، وقد وقفت على تصحيح النص في النسخة المطبوعة بتحقيق محمد عوامة، ففيها: وإخوتها لأمها، انظر «مصنف ابن أبي شيبة» بتحقيق محمد عوامة (16/233) حديث برقم (31746).

[17]  «مصنف ابن أبي شيبة» (6/247).

[18]  «السنن الكبرى»، البيهقي ت. التركي (12/582).