زعمهم عدم علم عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه بحكم التيمم

الشبهة: من مطاعن الشيعة في عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ادعاؤهم أنه كان جاهلًا بحكم التيمم.
وقد أورد هذه الشبهة كثيرٌ من علمائهم؛ منهم صاحب كتاب «ليالي بيشاور» ، وذكرها التيجاني في كتابه «ثم اهتديت» ، ومحمد صادق النجمي في كتابه «أضواء على الصحيحين» ، وغيرهم.
وملخص ما ذكروه: روايةٌ أخرجها الشيخان في الصحيحين، وسأذكر هنا لفظ مسلم؛ لأنهم كثيرًا ما يوردونه.
عن سعيد بن عبد الرَّحمن بن أبزى، عن أبيه، أنَّ رجلًا أتى عمر فقال: إنِّي أجنبت فلم أجد ماءً، فقال: لا تصلّ. فقال عمَّارٌ: أما تذكر يا أمير المؤمنين؛ إذ أنا وأنت في سريَّةٍ فأجنبنا فلم نجد ماءً، فأمَّا أنت فلم تصلّ، وأمّا أنا فتمعّكت في التّراب وصلّيت، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثمَّ تنفخ، ثمَّ تمسح بهما وجهك وكفّيك»؟ فقال عمر: «اتّق الله يا عمَّار» قال: «إن شئت لم أحدّث به»، قال الحكم: وحدّثنيه ابن عبد الرَّحمن بن أبزى، عن أبيه، مثل حديث ذرٍّ، قال: وحدّثني سلمة، عن ذرٍّ، في هذا الإسناد الّذي ذكر الحكم، فقال عمر: نولّيك ما تولّيت» .
قالوا: «ولا يخفى أنَّ فتوى الخليفة بترك الصلاة حال الجنابة، يعدّ مخالفةً صريحةً لنص القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يدلّ على جهل الخليفة بحكم التيمم، وعدم إحاطته بالأحكام الشرعية».

الرد علي الشبهة:

أولًا:  لا نسلّم أنَّ عمر I قد جهل حكم التيمم، كما يزعم الرَّافضة، بل المتوجّه أنَّ عمر I فهم أن التيمم يتعلق بالحدث الأصغر لا الأكبر، وهذا ما استنبطه من الآية، وبنى مذهبه في تلك المسألة عليه حينئذٍ.

قال الله تعالى: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ٤٣ ﴾ [النِّسَاء: ﵓﵔ].

فالآية قد بينت أن حكم الجنب هو الغسل: ﴿ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْ ، ثم النظر فيما يلي الكلام عن الغسل، هل هو متعلقٌ بما قبله، فيدخل فيه حكم الجنب، أم هو مستأنف؟!

واللمس في الآية محتملٌ للجماع، ومحتمل للمس العادي من غير جماع (المباشرة)، ومن ثمَّ؛ ففي الآية فسحةٌ للاجتهاد، واختلاف التأويلات والأفهام فيما يتعلق بالحدث الأكبر، ولذلك فقد جهل عَمَّار صفة التيمم أيضًا للحدث الأكبر، فظنّ أن قوله تعالى: ﴿ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا ﴾: يخصّ الحدث الأصغر فقط، ولذلك تمعّك في التراب، ولم يأت بالتيمم على وجهه الصحيح.

قال ابن عبد البر: «فإن قال قائلٌ: إنَّ في بعض الأحاديث عن عمّارٍ في هذا الخبرِ، أنَّ عمر لم يقنع بقول عمَّارٍ. فالجواب: أنَّ عمر كان يذهب إلى أنَّ الجنب لا يجزيه إلَّا الغسل بالماء، فلمَّا أخبره عمّارٌ عن النَّبي H بأن التيمم يكفيه، سكت عنه ولم ينهه، فلمَّا لم ينهه علمنا أنَّه قد وقع بقلبه تصديق عمّارٍ؛ لأنّ عمّارًا قال له: إن شئت لم أذكره، ولو وقع في قلبه تكذيب عمّارٍ لنهاه؛ لما كان الله قد جعل في قلبه من تعظيم حرمات الله، ولا شيءَ أعظمُ من الصَّلاة، وغير متوهّمٍ على عمر أن يسكت على صلاةٍ تصلّى عنده بغير طهارةٍ، وهو الخليفة المسؤول عن العامَّة، وكان أتقى النَّاس لربّه، وأنصحهم لهم في دينهم في ذلك الوقت رحمة الله عليه»[1].

ثانيًا:   إن عمر I لم ينفرد بهذا الفهم، بل شاركه بعض فقهاء الصحابة؛ كابن مسعود، وسبب ذلك: أن الآية ليست صريحة في أن التيمم يكون من الحدث الأكبر كما الأصغر، وذلك كما بيّنه ابن الجوزي في «كشف المشكل»، فقال: «ولكن ابن مسعود رأى أنَّ الآية لا تتضمّن التّيمّم، إنَّما تختص بالحدث الأصغر؛ فلذلك لم ير جواز التّيمّم للجنب.

وقد اختلف النَّاس في هذه الآية: فمنهم من قال: إنَّما دلّت على التّيمّم من الحدث الأصغر فقط، وهم القائلون بأن اللّمس لمس اليد. قالوا: وإنَّما استفدنا جواز التّيمّم للجنب من حديث عَمَّار، ويدل عليه أنه لما تمعك عَمَّار في التّراب، وأخبر رسول الله بفعله، قال: «إنَّما كان يكفيك أن تقول هكذا»، وعلّمه التّيمّم، ولم يرده إلى بيان الآية، ولو كان فيها بيان ذلك لقال كما قال لعمر في شأن الكلالة: «يكفيك آية الصّيف»[2].

ثالثًا:   إنّ هذه الرواية تدحض مزاعم الرَّافضة ودعواهم أنَّ عمر كان يفرض حكمه على الناس، بل على رسول الله H ؛ إذ منعه من الوصية، بل وفيها إقرارٌ لعَمَّار على عمله بالسُّنّة، ولا يعترض على هذا بقول عمر لعَمَّار: «اتق الله يا عَمَّار»؛ لأن المقصود: تثبّت يا عَمَّار، واحترز فيما تروي، وهذا مما يمكن أن يقال: إنه للتأديب والتنبيه العام إلى أن يتحرى الراوي تقوى الله فيما يرويه.

وهذا فيه غاية العظة والعبرة لمن تعجّ دعوتهم إلى الله بالأحاديث الموضوعة والضعيفة.

وقوله: «نوليك ما توليت» أي: ندعك وما تتقلد[3]، أي: أنه أقر عَمَّار على عمله بالسّنة.

رابعًا:   إنه قد ثبت عن النبي H تزكية عمر بن الخطَّاب I في علمه.

 فعن عبد الله بن عمر L قال: قال رسول الله H : «بينا أنا نائمٌ أتيت بقدح لبنٍ فشربت منه حتَّى إنّي لأرى الرّيّ يخرج من أطرافي، فأعطيت فضلي عمر بن الخطَّاب» فقال من حوله: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: «العلم»[4].

وعن عقبة بن عامرٍ I قال: سمعت رسول الله H يقول: «لو كان من بعدي نبيٌّ، لكان عمر بن الخطَّاب»[5].

وعن ابن عمر L أنَّ رسول الله H قال: «إنّ الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه»[6].

خامسًا:  إنه إذا كان الجهل بحكمٍ من الأحكام يزري بصاحبه ويسقطه من درجة العلم والفقه واستحقاق الإمامة، فهذا عليّ بن أبي طالب يورد الشيعة في كتبهم ما يفيد جهله بكثيرٍ من الأحكام.

فقد ورد في كتب الرَّافضة أنَّ عليًا I كان يجهل حكم المذي.

قال البحراني: «وعن إسحاق بن عَمَّار، في الصحيح، عن الصادق S قال: «سألته عن المذي، فقال: إن عليًا S كان رجلًا مذاءً، واستحيا أن يسأل رسول الله H ؛ لمكان فاطمة عليها السلام فأمر المقداد أن يسأله وهو جالس، فسأله، فقال له: ليس بشيء»[7].

فهذا عليٌّ I يجهل حكم المذي، ولا يستطيع أحدٌ أن يطعن في علمه.

بل ولم ويعلم أيضًا أن رسول الله H كان أخًا لحمزة I من الرضاعة، وجهل القاعدة الفقهية المشهورة: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»[8].

روى الكليني في «الكافي» عن أبي عبيدة قال: سمعت أبا عبد الله S يقول: «لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا على أختها من الرضاعة، وقال: إن عليًّا S ذكر لرسول الله H ابنة حمزة، فقال رسول الله H : أما علمت أنها ابنة أخي من الرضاعة، وكان رسول الله H وعمه حمزة S قد رضعا من امرأة»[9].

وقد صحح هذه الرواية:

محقق كتاب «ما لا يحضره الفقيه» علي أكبر غفاري، فقال عنه: حديث صحيح، ومحمد تقي المجلسي في كتابه «روضة المتقين»، ومحمد باقر المجلسي في كتابه «مرآة العقول»، ويوسف البحراني في «الحدائق النضرة»، والمحقق الحلي في «تذكرة الفقهاء»، والمحقق الأصفهاني في «كشف اللثام»، ومحمد بحر العلوم في كتابه «بلغة الفقيه»، وناصر مكارم الشيرازي في كتابه «أنوار الفقاهة»، والبجنوردي في «القواعد الفقهية»، وصدر الدين العاملي في كتابه «منظومة في الرضاع»[10].

وقد جهل جعفر الصادق أيضًا حرمة قلع الحشيش بمنى.

قال محمد تقي المجلسي: «ويمكن حمل النهي في غير الداخل على الكراهة، كما يظهر مما رواه الشيخ في الصحيح، عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله S قال: رآني علي بن الحسين R وأنا أقلع الحشيش من حول الفساطيط بمنى، فقال: يا بني، إن هذا لا يقلع، وإن أمكن حمله على إرادة القطع أو يكون صغيرًا غير مكلف، وجوزنا الجهل عليهم في الصغر»[11].

 وفي «الكافي» بإسناده عن جميل بن درّاجٍ، قال: سألت أبا عبد الله S عن قتل الخطّاف، أو إيذائهنّ في الحرم، فقال: لا يقتلن، فإنِّي كنت مع عليّ بن الحسين R فرآني وَأَنَا أُوذِيهِنَّ، فقال لي يا بنيّ لا تقتلهنّ ولا تؤذهنّ، فإنَّهنّ لا يؤذين شيئًا»[12].

*   وفي هذه الرواية التصريح بجهل الصادق للحكم الشرعي في حرمة أذية الخطاف، فهل يطعن الرَّافضة في علم الإمام الصادق؟!

 

[1]   «التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» (19/273).

[2]   «كشف المشكل من حديث الصحيحين»، ابن الجوزي (1/342). وآية الصيف هي آية الكلالة التي في آخر سورة النساء.

[3]   «كشف المشكل من حديث الصحيحين» (1/345).

[4]   «صحيح البخاري»، كتاب التعبير، باب: إذا جرى اللبن في أطرافه أو أظافيره (9/35) برقم (7007)، وأحمد في «مسنده» (2/288) برقم (6107).

[5]   رواه أحمد في «مسنده» (5/154) برقم (16952)، والترمذي في «سننه»، أبواب المناقب عن رسول الله H ، باب: في مناقب أبي حفص عمر بن الخطاب (6/59) برقم (3686)، وحسنه الألباني في «صحيح الترمذي» (3686)، وفي «صحيح الجامع» (5284)، وفي «الصحيحة» (327).

[6]   رواه أحمد في «مسنده» (2/152) برقم (5123)، والترمذي في «سننه»، أبواب المناقب عن
رسول الله H ، باب: في مناقب أبي حفص عمر بن الخطاب (6/57) برقم (3682)، «الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان»، كتاب مناقب الصحابة، باب: ذكر إجراء الله الحق على قلب عمر بن الخطاب (15/318) برقم (6895)، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» (3682)، وفي «صحيح الجامع» (1736)، وأحمد شاكر في «مسند أحمد» (7/133).

[7]   «تهذيب الأحكام» (1/17)، و«وسائل الشيعة» (1/196)، «بحار الأنوار» (77/225)، «تذكرة الفقهاء» للعلامة الحلي (1/105)، «مشارق الشموس» (1/58) للمحقق الخونساري؛ «الحدائق الناضرة» (2/108) للمحقق البحراني، وصرح بصحة سنده في (5/37)، كتاب «النوادر» لقطب الدين الراوندي (ص205).

[8]   فقوله: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»، هو جزء من حديث رواه البخاري في كتاب الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض (3/170) برقم (2645).

[9]   «الكافي» (ج10/893).

[10]  «من لا يحضره الفقيه» (3/411)، «روضة المتقين» (8/236)، «مرآة العقول» (20/220)، «الحدائق النضرة» (23/218)، «تذكرة الفقهاء» (2/614)، «كشف اللثام» (2/42)، «بلغة الفقيه» (3/122)، «أنوار الفقاهة» (2/102)، «القواعد الفقهية» (4/324)، «منظومة في الرضاع» (1/100).

[11]  «روضة المتقين» (‏4/166).

[12]  «الكافي»، الكليني (6/224)، وقال المجلسي عن الرواية في «مرآة العقول»: «حسن» (21/370).