الطعن في خلافته لقول الحسين له: «انزل عن منبر أبي»

الشبهة: احتج الشيعة برواية ذكرها الحافظ في «الإصابة»؛ ليطعنوا في أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه.
قال الحافظ ابن حجر: «وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: عن عبيد بن حنين، حدثني الحسين بن علي قال: أتيت عمر وهو يخطب على المنبر فصعدت إليه، فقلت: انزل عن منبر أبي، واذهب إلى منبر أبيك. فقال عمر: لم يكن لأبي منبر. وأخذني فأجلسني معه أقلّب حصى بيدي، فلما نزل انطلق بي إلى منزله، فقال لي: من علّمك؟ قلت: واللّه ما علّمني أحد. قال: بأبي، لو جعلت تغشانا. قال: فأتيته يومًا وهو خال بمعاوية، وابن عمر بالباب، فرجع ابن عمر فرجعت معه، فلقيني بعد، قلت: فقال لي: لم أرَكَ. قلت: يا أمير المؤمنين، إني جئت وأنت خال بمعاوية، فرجعت مع ابن عمر. فقال: أنت أحقّ بالإذن من ابن عمر، فإنما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ثم أنتم. سنده صحيح، وهو عند الخطيب» .
قال باقر شريف القرشي معلقًا على هذه الرواية: «ومع اعترافك بأنه منبر أبيه لا منبر أبيك فكيف احتللته واستبحت مقامه؟!» .

الرد علي الشبهة:

أولًا: ليس في الرواية طعن في خلافة عمر، بل إثبات واعتراف بها؛ لأن الحسين خاطب عمر-بعد هذه الواقعة- بقوله: «يا أمير المؤمنين»، فضلًا عن الفضيلة الظاهرة لعمر بن الخطَّاب I في تقديم الحسين في الإذن على ولده عبد الله بن عمر، الذي يكبر الحسين بقرابة الأربع عشرة سنة، وفيه دليل على تعظيم عمر لأهل البيت ومراعاة حقوق عترة النبي H .

في «السير» عن الزّهريّ: «أنَّ عمر كسا أبناء الصَّحابة، ولم يكن في ذلك ما يصلح للحسن والحسين؛ فبعث إلى اليمن، فأتى بكسوةٍ لهما، فقال: الآن طابت نفسي»[1].

ثانيًا: الحسين قال هذا الكلام وهو صغير، ففي رواية ابن شبة: «... وحسينٌ I يومئذٍ دون المحتلم»[2].

بل وفي رواية «الإصابة» قال الحسين: «... وأخذني فأجلسني معه أقلّب حصىً بيدي، فلما نزل انطلق بي إلى منزله، فقال لي: من علّمك؟ قلت: والله ما علّمني أحد. قال: بأبي، لو جعلت تغشانا...»[3].

فكان تعامل عمر مع الحسين تعامل الأب الحنون على أولاده؛ ولذلك خاطبه بقوله: «يا بن أخي»، بل إن عمر عامل الحسين برحمة وحنان أكثر من أبيه.

ففي «تاريخ الخلفاء» قال: «وأخرج ابن عساكر عن أبي البختري قال: كان عمر بن الخطَّاب يخطب على المنبر، فقام إليه الحسين بن علي L فقال: انزل عن منبر أبي، فقال عمر: منبر أبيك لا منبر أبي، من أمرك بهذا؟ فقام علي فقال: والله ما أمره بهذا أحد، أما لأوجعنك يا غدر، فقال: لا توجع ابن أخي، فقد صدق: منبر أبيه. إسناده صحيح»[4].

فهنا همَّ عليٌّ بعقوبة الحسين، ولكن عمر نهاه بقوله: «لا توجع ابن أخي، فقد صدق».

وبالفعل فإن أي منبر يصعده الخطيب في أي بلد إنما ينسب لرسول الله H في الأصل، لكن المنبر ليس وراثة لأحد من بعد رسول H ، ولا هو مخصص لبني هاشم وحدهم، قال تعالى: ﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّـۧنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا ٤٠ ﴾ [الأَحۡزَاب: 40] فالمنبر يرثه أهل العلم الذين ورثوا العلم عن رسول الله H واتبعوا نهجه؛ قال تعالى: ﴿ قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٨ ﴾ [يُوسُف: 108] .

وقال H : «وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَرَّثُوا الْعِلْمَ»[5] وعليه فالمنبر حق لكل وارث لعلم الكتاب والسُّنَّة.

ثالثًا:   الحسين I في هذا الوقت مرفوع عنه القلم، ويجوز عليه الجهل، ويجب تأديبه إذا أخطأ.

يقول الحلي في «المعتبر»: شرائط حجة الإسلام وهي ستة: «البلوغ، وكمال العقل...»، فلا يجب على الصغير ولا المجنون، وعليه العلماء كافة؛ لقوله H : «رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق»[6].

وأما الجهل:

فقد جهل جعفر الصادق حرمة قلع الحشيش بمنى؛ قال محمد تقي المجلسي: «ويمكن حمل النهي في غير الداخل على الكراهة كما يظهر مما رواه الشيخ في الصحيح، عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله S قال: رآني علي بن الحسين R وأنا أقلع الحشيش من حول الفساطيط بمنى فقال: يا بني، إن هذا لا يقلع. وإن أمكن حمله على إرادة القطع، أو يكون صغيرًا غير مكلف وجوزنا الجهل عليهم في الصغر»[7].

وفي «الكافي» بإسناده عن جميل بن درّاجٍ قال: «سألت أبا عبد الله S عن قتل الخطّاف أو إيذائهنّ في الحرم فقال: لا يقتلن؛ فإنِّي كنت مع عليّ بن الحسين S فرآني وأنا أوذيهنّ، فقال لي: يا بنيّ، لا تقتلهنّ ولا تؤذهنَّ فإنَّهنَّ لا يؤذين شيئًا»[8].

في هذه الرواية التصريح بجهل الصادق للحكم الشرعي في حرمة أذية الخطاف.

إذا هذا الموقف من الحسين إنما هو بطبيعة سنّه وطفولته؛ ولذلك أراد عليٌّ تأديبه، وقد ثبت في كتب الشيعة أن المعصوم ينبغي أن يؤدب إذا أخطأ:

قال محمد تقي المجلسي في «روضة المتقين»: «وفي القوي كالصحيح عن زرارة قال: رأيت داية أبي الحسن موسى S تلقمه الأرزّ وتضربه عليه، فغمّني ما رأيته، فدخلت على أبي عبد الله S فقال لي: أحسبك غمّك ما رأيت من داية أبي الحسن موسى، قلت له: نعم، جعلت فداك، فقال لي: نعم الطّعام الأرزّ؛ يوسّع الأمعاء ويقطع البواسير، وإنّا لنغبط أهل العراق بأكلهم الأرزّ والبسر؛ فإنَّهما يوسّعان الأمعاء ويقطعان البواسير»[9].

فالرواية صريحة في تأديب الداية للكاظم بحضور وإقرار من الصادق I، بل وتضربه على أمر لا يعرف فيه مصلحته.

قلت: فالمعصوم إذا كان صغيرًا فهو لا يعرف مصلحة نفسه، فيكف يعرف مصلحة غيره؟! ولذلك أراد عليٌّ أن يؤدبه، كما في «تاريخ الخلفاء»[10].

بل واعتذر عليٌّ للحسن لما قال ذلك لأبي بكر -في روايات الشيعة- بأنه لم يستكمل عقله.

فقد روى محمد بن أشعث الكوفي بسنده: «عن عليّ بن أبي طالبٍ S قال: لَمَّا استخلف أبو بكرٍ صعد المنبر في يوم الجمعة، وقد تهيّأ الحسن والحسين للجمعة، فسبق الحسين فانتهى إلى أبي بكرٍ وهو على المنبر، فقال له: هذا منبر أبي لا منبر أبيك، فبكى أبو بكرٍ، فقال: صدقت هذا منبر أبيك لا منبر أبي، فدخل عليّ ابن أبي طالبٍ S على تلك الحال، فقال: ما يبكيك يا أبا بكرٍ؟ فقال له القوم: قال له الحسين كذا وكذا، فقال عليٌّ S: يا أبا بكرٍ، إنّ الغلام إنَّما يثّغر في سبع سنين، ويحتلم في أربع عشرة سنةً، ويستكمل طوله في أربعٍ وعشرين، ويستكمل عقله في ثمانٍ وعشرين سنةً، فما كان بعد ذلك فإنَّما هو بالتّجارب»[11].

فهنا يجزم علي بن أبي طالب أن الحسين لم يستكمل عقوله لما قال تلك المقالة، وعليه فنجزم أن الحسين أخطأ، وإلا لما احتاج إلى التأديب، لكن عمر بن الخطَّاب I راعى النبي H في قرابته لأبعد حد.

رابعًا : قول الحسين I: «منبر أبي»، أي: منبر النبي H ، ولم يقصد منبر والده علي بن أبي طالب I، ودليل ذلك ما صرحت به رواية «تاريخ المدينة» لابن شبة، وفيها: «انزل عن منبر جدّي»[12].

وأما قول عمر: «ما أنبت الشعر برؤوسنا إلا الله ثم أنتم» أي: إن النبوة كانت في بيتكم وبها ارتفعنا وعلونا، وهذا معنى إنبات الشعر في الرأس، فهو كناية عن الرفعة والعلو، وليس المقصود أن آل البيت ينبتون الشعر في الرأس، وقد كان عمر أصلع كما هو معلوم، فكان قصد عمر التعظيم من شأن أهل البيت كرامة لسيده، ومن هذا الباب ما يقال عند العوام: «أنا لحم أكتافي من خيرك» فهذا اعتراف بالمنّة، وهي كناية بلا شك.

بل قد جاء في رواية في «الأمالي» للطوسي عن زيد بن علي، عن أبيه S: أن الحسين بن علي R أتى عمر بن الخطَّاب وهو على المنبر يوم الجمعة، فقال له: انزل عن منبر أبي، فبكى عمر، ثم قال: صدقت يا بني، منبر أبيك لا منبر أبي. فقال عليّ S: ما هو والله عن رأيي. قال: صدقت، والله ما اتهمتك يا أبا الحسن. ثم نزل عن المنبر، فأخذه فأجلسه إلى جانبه على المنبر، فخطب الناس وهو جالس معه على المنبر، ثم قال: أيها الناس، سمعت نبيكم H يقول: «احفظوني في عترتي وذريتي، فمن حفظني فيهم حفظه الله، ألا لعنة الله على من آذاني فيهم! ثلاثًا»[13].

فهنا تبرأ عليٌّ من فعل الحسين، ثم روى عمر عن رسول الله H : «احفظوني في عترتي وذريتي، فمن حفظني فيهم حفظه الله، ألا لعنة الله على من آذاني فيهم!» ثلاثًا.

*  وكم في هذه الرواية من رسالة للشيعي العاقل؛ حتى يعرف:

- حقيقة العلاقة بين أهل البيت وعمر.

- وأنهم كانوا يحضرون مجالسه.

- ويصلون معه.

- ويتلطف معهم.

- وقال عمر بوجوب حفظ حقوقهم، ويرويها عن النبي H .

- ويفضلهم على نفسه M أجمعين.

 

[1]   «سير أعلام النبلاء» ط. الرسالة (3/285).

[2]   «تاريخ المدينة»، عمر بن شبة (3/798).

[3]   «الإصابة في تمييز الصحابة»، ابن حجر العسقلاني (٦٩/69).

[4]   «تاريخ الخلفاء»، السيوطي (1/124).

[5]   رواه أبو داود (3641)، والترمذي (2682).

[6]   «المعتبر في شرح المختصر»، المحقق الحلي (2/747).

[7]   «روضة المتقين» (‏4/166).

[8]   «الكافي»، الكليني (6/224)، وقال المجلسي عن الرواية في «مرآة العقول»: «حسن» (21/370).

[9]   «روضة المتقين»، المجلسي الأول (‏4/166).

[10]  «تاريخ الخلفاء» (١/١٢٤).

[11]  «الجعفريات - الأشعثيات»، محمد بن أشعث الکوفي (ص212).

[12]  «تاريخ المدينة»، ابن شبة (14/3).

[13]  «الأمالي»، الطوسي (ص703).