قول عمر رضي الله عنه: «فرأيتماني كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا»

الشبهة: دائمًا ما يحاول الرَّافضة الطعن في الشيخين رضي الله عنهما، بحديث في صحيح الإمام مسلم، ويكررون ذلك في كتبهم ومنتدياتهم، ويقولون بأن هذه عقيدة علي في أبي بكر وعمر، كما وردت في أصح كتب أهل السُّنَّة.

الرد علي الشبهة:

وإليك الرواية كاملة:

روى الإمام مسلم بسنده عن الزّهريِّ، أنَّ مالك بن أوسٍ حدَّثه قال: «أرسل إليّ عمر بن الخطَّاب، فجئته حين تعالى النّهار، قال: فوجدته في بيته جالسًا على سريرٍ، مفضيًا إلى رماله، متّكئًا على وسادةٍ من أَدَمٍ، فقال لي: يا مال، إنَّه قد دفَّ أهل أبياتٍ من قومك، وقد أمرت فيهم برضخٍ، فخذه فاقسمه بينهم، قال: قلت: لو أمرت بهذا غيري، قال: خذه يا مال، قال: فجاء يرفا، فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان، وعبد الرَّحمن بن عوفٍ، والزّبير، وسعدٍ؟ فقال عمر: نعم، فأذن لهم فدخلوا، ثمَّ جاء، فقال: هل لك في عبّاسٍ، وعليٍّ؟ قال: نعم، فأذن لهما، فقال عبّاسٌ: يا أمير المؤمنين، اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن، فقال القوم: أجل يا أمير المؤمنين، فاقض بينهم وأرحهم، فقال مالك بن أوسٍ: يخيّل إليّ أنّهم قد كانوا قدّموهم لذلك، فقال عمر: اتّئدا، أنشدكم بالله الّذي بإذنه تقوم السَّماء والأرض، أتعلمون أنَّ
رسول الله H قال: «لا نورث، ما تركنا صدقةٌ»؟ قالوا: نعم، ثمَّ أقبل على العبّاس، وعليٍّ، فقال: أنشدكما بالله الّذي بإذنه تقوم السَّماء والأرض، أتعلمان أنّ
رسول الله H قال: «
لا نورث، ما تركناه صدقةٌ»؟ قالا: نعم، فقال عمر: إنّ الله جلّ وعزّ كان خصّ رسوله H بخاصّةٍ لم يخصّص بها أحدًا غيره، قال: ﴿ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰ ﴾ [الحَشۡر: 7] ، ما أدري هل قرأ الآية الَّتي قبلها أم لا، قال: فقسم رسول الله H بينكم أموال بني النّضير، فوالله، ما استأثر عليكم، ولا أخذها دونكم، حتَّى بقي هذا المال، فكان
رسول الله H يأخذ منه نفقة سنةٍ، ثمَّ يجعل ما بقي أسوة المال، ثمَّ قال: أنشدكم بالله الّذي بإذنه تقوم السَّماء والأرض، أتعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، ثمَّ نشد عبّاسًا وعليًّا بمثل ما نشد به القوم: أتعلمان ذلك؟ قالا: نعم، قال: فلمَّا توفّي رسول الله H قال أبو بكرٍ: أنا وليّ رسول الله H ، فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكرٍ: قال رسول الله H : «ما نورث، ما تركناه صدقةٌ» فرأيتماه كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا، والله يعلم إنّه لصادقٌ، بارٌّ، راشدٌ، تابعٌ للحقّ، ثمَّ توفّي أبو بكرٍ، وأنا وليّ رسول الله H ووليّ أبي بكرٍ، فرأيتماني كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا، والله يعلم إنّي لصادقٌ، بارٌّ، راشدٌ تابعٌ للحقّ، فوليتها، ثمَّ جئتني أنت وهذا وأنتما جميعٌ وأمركما واحدٌ، فقلتما: ادفعها إلينا، فقلت: إن شئتم دفعتها إليكما على أنَّ عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالّذي كان يعمل رسول الله H ، فأخذتماها بذلك، قال: أكذلك؟ قالا: نعم، قال: ثمَّ جئتماني لأقضي بينكما، ولا والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتَّى تقوم السّاعة، فإن عجزتما عنها فردَّاها إليّ»
[1].

 الرد التفصيلي على الشبهة:

أولًا:    إن الذي قال هذا الكلام «فرأيتماني كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا» هو عمر I نفسه، وأما علي I فلم يقل شيئًا من ذلك قط، وكان من ضمن الصفات قوله: «كاذبًا» فلئن كان عمر صادقًا في قوله، أن من صفاته الكذب، لأوجب ذلك نقض قوله كله؛ لأن الكاذب حديثه مردود في وجهه، فلماذا صدقتم أن عمر كاذب، وفي نفس الوقت هو القائل: «فرأيتماني...»؟! ثم إن كلمة «فرأيتماني» دليل على أن هذا تخرص وظن، لم يعبّر عنه بلفظ صريح من علي بن أبي طالب I فما هو إلا ظن من عمر، والظن لا يغني من الحق شيئًا كما هو معلوم، ومن ثمَّ، فإن إجراء تلك الألفاظ على ظاهرها يجعلها تتساقط كلها؛ لأن من وصف نفسه بالكذب هو نفس الرجل الذي صدقتموه، فلزم سقوط ذلك عقلًا!

ولا يقال هنا: إن عليًّا I أقره وإقرار عليّ حجة؛ لأنه سيأتي معنا من القرائن المتكاثرة ما يدل على أن عليًّا يعلم أن هذا الكلام ليس على ظاهره.

ثانيًا:   إن الدليل على أن عمر «صادقٌ، بارٌّ، راشدٌ، تابعٌ للحقّ»[2] أنه أطاع النبي H كما في رواية الكافي[3] التي صححها علماء الشيعة.

قال النراقي: «صحيحة أبي البختري عن الصادق S قال: إن العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أنهم لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظًّا وافرًا»[4].

 فهذا دليلٌ على بره، وصدقه، ورشده، واتباعه للحق.

ثم إن الثابت عند السُّنَّة والشيعة أن أبا بكر وعمر L عملا في أموال النبي H كما كان يعمل فيها H ، ومن المعلوم أن فدك كانت خالصة لرسول الله H كخمس خيبر، وحوائط بني النضير، فكان H يأخذ منها نفقة نسائِه، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح في سبيل الله، فكان أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، على ذلك بلا خلاف بين أهل السُّنَّة والرَّافضة.

ففي رواية البخاري: «فقال أبو بكرٍ: إنَّ رسول الله H قال:
«لا نورث ما تركنا فهو صدقةٌ، إنَّما يأكل آل محمّدٍ من هذا المال، يعني مال الله، ليس لهم أن يزيدوا على المأكل»، وإنّي والله لا أغيّر شيئًا من صدقات النَّبي H الَّتي كانت عليها في عهد النَّبي H ، ولأعملنّ فيها بما عمل فيها رسول الله H ، فتشهّد عليٌّ ثمَّ قال: إنَّا قد عرفنا يا أبا بكرٍ فضيلتك، وذكر قرابتهم من رسول الله H وحقّهم، فتكلّم أبو بكرٍ فقال: والّذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله H أحبّ إليّ أن أصل من قرابتي»
[5].

وقد أقر ميثم البحراني بذلك؛ حيث قال: «إن أبا بكر كان يطبق ما وعد به فاطمة رضوان الله عليها..؛ حيث ذكروا أن أبا بكر كان يأخذ غلتها (أي: فدك) فيدفع إليهم (أي: أهل البيت) منها ما يكفيهم، ويقسم الباقي، فكان عمر كذلك، ثم كان عثمان كذلك، ثم كان عليٌّ كذلك»[6].

فهذا إقرار من الشيعة بأن أبا بكر وعمر عملا في أموال النبي H كما كان يعمل هو فيها H ، وهذا أصدق دليل على أنه «صادقٌ، بارٌّ، راشدٌ، تابعٌ للحقّ».

بل وزيادة على ذلك: روى ابن شبة عن عروة: «... وأعطى فاطمة J نخلًا يقال له: الأعواف، ممّا كان لرسول الله H »[7].

فإذا قال أحدٌ فيمن عمِل عمَل رسول الله H : إنه «كاذب، آثم، غادر، خائن» فقد عاد الطعن إلى رسول الله H لا محالة.

ثالثًا:   إن عمر I لما استعمل ألفاظ العباس I نفسها، لما وصف عليًّا I دلَّنا ذلك على أنه يقول لعلي والعباس: لو عملت أنا وأبو بكر خلاف ما أمر به رسول الله H لاستحققنا تلك الأوصاف، كما أن العباس لما رآك عملت خلاف ما يعتقد أنه الصواب وصفك بتلك الأوصاف، وقد كانت صدقة النبي H التي في المدينة فوّض عمر إدارتها لعلي والعباس، فاختلفا في نفس الإدارة.

ففي رواية الصحيحين: «فأمَّا صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى عليٍّ وعبّاسٍ، وأمّا خيبر وفدكٌ فأمسكها عمر، وقال: هما صدقة رسول الله H كانتا لحقوقه الَّتي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى من ولي الأمر..»[8].

رابعًا:     إن عقيدة علي في فدك تبرئ أبا بكر وعمر من تلك التهمة؛ لأن عليًّا لم يعتقد وجوب تملك أموال رسول الله H ، وإنما كان يريد إدارتها فقط.

وقد صح ضرورةً عند السُّنَّة والشيعة أن عليًّا لما تولى الخلافة لم يرد فدك إلى ورثتها الشرعيين، ففي أحكام المواريث ذكر علماؤهم أحكام المناسخات، وقرروا وجوب توزيع التركة، حتى ولو مات الوارث الأول[9].

ومن الأدلة على أن عليًا I لم يرد فدك، حديث الكافي[10]، قال المجلسي عنه: «الحديث عندي معتبر»[11]، وفيه: «...أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم S، فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله H ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة عليها السلام».

قال المازندراني: «ورددت فدك إلى ورثة فاطمة عليها السلام دل على أنه S لم يرد فدكًا في خلافته؛ لإفضائه إلى الفساد والتفرقة، فلا ترد ما أورده بعض العامة، من أن أخذ فدك لو لم يكن حقا لرده S في خلافته»[12].

وفي رواية «علل الشرائع» بسنده عن أبي الحسن قال: «سألته عن أمير المؤمنين، لم لم يسترجع فدكًا لما ولي الناس؟ فقال: لأنا أهل بيت لا نأخذ حقوقنا ممن ظلمنا إلا هو، ونحن أولياء المؤمنين، إنما نحكم لهم، ونأخذ حقوقهم ممن ظلمهم، ولا نأخذ لأنفسنا»[13].

قلت: وهذا عين الحمق؛ لأنه يلزم من ذلك أن فاطمة خالفت الشرع المنسوب إلى أهل البيت لما طالبت بفدك من أبي بكر الذي أخذها ظلمًا حسب زعم الشيعة.

وقال محسن الأمين: «الصحيح أن عليًّا لم يقم بإدارة فدك، ولم تدفع إليه بعد وفاة النبي H ، وخرجت عن يده ويد زوجته الزهراء ولم تعد إلى ورثة الزهراء إلا في خلافة عمر بن عبد العزيز وخلافة السفاح والمهدي والمأمون»[14].

وقد عللوا ذلك بعجز عليّ I عن تطبيق الشريعة، وذلك كما في كتاب (الأراضي) لمحمد إسحاق الفياض قال: «أمير المؤمنين S لا يقدر على تغيير ما صنعه الخلفاء قبله»[15].

قلت: والعاجز لا يصلح للإمامة قطعًا.

فثبت من هذا أن عليًّا I عمل في فدك بما عمل فيها الخلفاء الراشدون قبله، ولم يعرف تلك العقيدة التي ينسبها إليه الشيعة، وبه يظهر أن تلك الألفاظ التي صدرت من عمر لم تكن هي عقيدة علي بن أبي طالب I.

خامسًا:   إن مجيء علي I للتحاكم عند عمر I دليل على أنه لا يعتقد حقائق تلك الأوصاف، ولو اعتقدها لكان بذلك جاهلًا بدين الشيعة.

فقد جاء في «الكافي»[16] وقال المجلسي عنه موثق[17]: «من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذ سحتًا، وإن كان حقه ثابتًا؛ لأنه أخذ بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به».

فلو كان عمر بتلك الأوصاف لما جاز أن يتحاكم إليه العباس وعلي.

سادسًا: هناك قرائن قوية تدل على أن هذا الكلام خرج مخرج الاستفهام الإنكاري، وهذا معروفٌ في القرآن الكريم، وفي لغة العرب.

 قال النحاس في قوله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلۡنَا لِبَشَرٖ مِّن قَبۡلِكَ ٱلۡخُلۡدَۖ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلۡخَٰلِدُونَ ٣٤ ﴾ [الأَنبِيَاء: 34]  «جيء بالفاء التي في (فهم) عند الفراء لتدلّ على الشرط؛ لأنه جواب قولهم: ستموت، ويجوز أن يكون جيء بها؛ لأن التقدير فيها: أفهم الخالدون إن متّ؟ قال الفراء: ويجوز حذف الفاء وإضمارها؛ لأن هم لا يتبيّن فيها الإعراب، أو لأن المعنى أهم الخالدون إن مت؟»[18].

وقال الطبرسي: «(فهم الخالدون) أي: أفهم يخلدون بعدك، يعنى مشركي مكة حين قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون؟ فقال: لئن مت فإنهم أيضًا يموتون، فأي فائدة لهم في تمني موتك؟!»[19].

فيكون تقدير كلام عمر I: «أفرأيتماه كاذبًا، آثمًا، غادرًا، خائنًا؟»، وكذلك قوله: «أفرأيتماني كاذبًا، آثمًا، غادرًا، خائنًا؟».

والدليل على ذلك: القرائن الواضحة في هذه الرواية، وهي:

 مناشدته بالله لعلي، والعباس، وسائر الصحابة M بأن النبي H قد قال: «لا نورث ما تركنا صدقةٌ»، فكلهم صدّقه وقال له: نعم، أي: أنهم أقروا جميعًا بمن فيهم علي والعباس M بذلك، ومن المستحيل أن يتواطأ جميع هؤلاء الصحابة M على الكذب على رسول الله H .

 قول عمر عن نفسه، وعن أبي بكر L: «لصادقٌ، بارٌّ، راشدٌ، تابعٌ للحقّ»، وتصديق علي والعباس L على ذلك.

قال ابن حجر الهيتمي: «فحينئذٍ أثبتَ عمر أنه غير إرث، ثمَّ دفعه إليهما؛ ليعملا فيه بسنة رسول الله H ، وبسنة أبي بكر فأخذاه على ذلك، وبين لهما أن ما فعله أبو بكر فيه، كان فيه صادقًا، بارًا، راشدًا، تابعًا للحق، فصدقاه على ذلك»[20].

 قول عمر I: «فقلت: إن شئتم دفعتها إليكما، على أنَّ عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالّذي كان يعمل رسول الله H ، فأخذتماها بذلك»، فكيف يكون كاذبًا، آثمًا، غادرًا، خائنًا من يأخذ عهد الله عليهما أن يعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله H ؟!

فكل هذه القرائن تدل دلالة واضحة، على أن المفهوم من كلام عمر I المدح لا القدح، والله تعالى أعلم[21].

سابعًا:  إن تلك الألفاظ كانت على سبيل المشاكلة، وهي ذكر الشيء بلفظ غيره؛ لوقوعه في صحبته لنكتةٍ ما، كما في قوله تعالى: ﴿ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمۡ ﴾ [التَّوۡبَة: 19] ، وقوله تعالى: ﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ ٥٤ ﴾ [آل عِمۡرَان: 54].

ومعلوم أن الله لا يوصف بالنسيان ولا بالمكر على سبيل الإطلاق، وبه يظهر أن عمر لما استعمل الألفاظ نفسها التي ذكرها العباس، خرج الكلام مخرج المشاكلة لا غير.

ثامنًا:     مخاطبة العباس لعمر بقوله: «يا أمير المؤمنين» دليل على أنهما لم يعتقدا ما قاله عمر؛ إذ إن أمير المؤمنين لا يجوز أن يكون كاذبًا، آثمًا، غادرًا، خائنًا.

تاسعًا: إذا تنزَّلْنَا -جدلًا- وقلنا بأن هذا الكلام كان على ظاهره فهو متقدم، وحكمه بأفضليتهما متأخر، وإذا تعذر الجمع بين قولي المجتهد اعتمد المتأخر منهما؛ لأنه لا يجوز أن ننسب إلى أحد قولًا ثبت بالأسانيد الصحيحة تراجعه عنه، وقد يكون التراجع لأسباب كثيرة، منها: اطلاعه على ما لم يكن يعلم من الأدلة، أو تبينه لخطأِ ظنّه، وفساد مناط حكمه، أو ظهور وجه في الاستنباط أقوى مما اعتمد عليه.

عن محمَّد ابن الحنفيَّة قال: «قلت لأبي: أيُّ النَّاس خيرٌ بعد رسول الله H ؟ قال: أبو بكرٍ، قلت: ثمَّ من؟ قال: ثمَّ عمر، وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثمَّ أنت؟ قال: ما أنا إلَّا رجلٌ من المسلمين»[22].

وعن ابن أبي مليكة، أنَّه سمع ابن عبّاسٍ يقول: وضع عمر على سريره فتكنّفه النَّاس، يدعون ويصلّون قبل أن يرفع وأنا فيهم، فلم يرعني إلَّا رجلٌ آخذٌ منكبي، فإذا عليّ بن أبي طالبٍ، فترحّم على عمر وقال: ما خلّفت أحدًا أحبّ إليّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظنُّ أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبت أنِّي كنت كثيرًا أسمع النَّبي H يقول: «ذهبت أنا وأبو بكرٍ وعمر، ودخلت أنا وأبو بكرٍ وعمر، وخرجت أنا وأبو بكرٍ وعمر»[23].

وكذلك، فإن عليًّا I قد زوج ابنته أم كلثوم من عمر I، فقد روى البخاري بسنده عن ابن شهابٍ، وقال ثعلبة بن أبي مالكٍ: «إنَّ عمر بن الخطّاب I قسم مُروطًا بين نساءٍ من نساء أهل المدينة، فبقي منها مرطٌ جيّدٌ، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين، أعط هذا بنت رسول الله H الَّتي عندك، يريدون أمّ كلثومٍ بنت عليٍّ، فقال عمر: أمّ سليطٍ أحقّ به وأمّ سليطٍ من نساء الأنصار، ممّن بايع رسول الله H قال عمر: فإنَّها كانت تزفر لنا القرب يوم أحدٍ»[24].

فظهر أن الاستدلال بهذا الأثر من أبطل الباطل.

عاشرًا: يمكن أن يقال: إن ذلك مما يصدر من الإنسان في حالة الغضب، ولا يقره حال الرضا.

فعن أبي بكرة قال: سمعت النَّبي H يقول: «لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان» [25] ذلك لأن الغضب يحجب العقل عن كمال الإدراك.

وقد ورد مثل هذا في كتب الرَّافضة.

قال محمد الريشهري: قال رسول الله H : «من ابتلي بالقضاء فلا يقضي وهو غضبان». قال الإمام علي S لشريح: لا تسار أحدًا في مجلسك، وإن غضبت فقم، فلا تقضين فأنت غضبان. وقال رسول الله H :
«لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان»
[26].

حادي عشر: إن هذه الأقوال قد خرجت في معرض العتاب، وليست على ظاهرها، فهي واردةٌ مورد الأخذ بأسوأ ما يحتمل لزومه من الفعل، مبالغةً في العتاب والزجر، وذلك كما إذا ذهب المرء إلى طبيب ثقة فأعطاه علاجًا فلم يتناوله، فذهب إليه مرة أخرى، فقال له: هل تراني كاذبًا، آثمًا، غادرًا...الخ؟! مع أنه لو كان يراه كذلك لما ذهب إليه.

وأما عند الشيعة، فطعنهم في بعضهم لا يعد ولا يحصى، ومنه على سبيل المثال:

الأصبغ بن نباته: ثقة، ومن خواص أصحاب علي عند الشيعة، ومع ذلك فهو ملعون هو وأصحابه على لسان رسول الله H .

جاء في كتاب «العوالم» للإمام الحسين: «...فرأيت رسول الله H يعض على الأنامل وهو يقول: بئس الخلف خلفتني أنت وأصحابك، عليكم
لعنة الله ولعنتي»
[27].

فهذا ملعون بقول رسول الله H ، وهو ثقة عندكم، ولا شك أنكم التمستم لذلك تبريرًا.

 قول الحسن S لعبد الله بن علي: «لعنك الله من كافر».

وقد عجز المجلسي عن توجيه هذه المسألة، فقال: «وأما ما تضمن من قول الحسن S لعبد الله بن علي فيشكل توجيهه؛ لأنه كان من السعداء الذين استشهدوا مع الحسين صلوات الله عليه على ما ذكره المفيد وغيره، والقول بأنه S علم أنه لو بقي بعد ذلك ولم يستشهد لكفر بعيدٌ»[28].

 اتهام الشيعة محمد ابن الحنفية بالزنا:

في «الكافي» بسنده: «...إن امرأة أقرت عند أمير المؤمنين S بالزنا أربع مرات، فأمر قنبرًا فنادى بالناس فاجتمعوا، وقام أمير المؤمنين S فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن إمامكم خارج بهذه المرأة إلى هذا الظهر؛ ليقيم عليها الحد، إن شاء الله،.....ونادى بأعلى صوته: أيها الناس، إن الله عهد إلى نبيه H عهدًا عهده محمد H إليّ بأنّه لا يقيم الحد من لله عليه حد، فمن كان لله عليه مثل ما له عليها فلا يقيم عليها الحد، قال: فانصرف الناس يومئذٍ كلهم ما خلا أمير المؤمنين، والحسن والحسين Q، فأقام هؤلاء الثلاثة عليها الحد يومئذٍ وما معهم غيرهم، قال: وانصرف يومئذٍ فيمن انصرف محمد ابن أمير المؤمنين S»[29].

فها هو محمد بن علي بن أبي طالب يدعي الشيعة أنه وقع في فاحشة الزنا، وحاشاه I!

فإذا ألزمناكم بذلك أوَّلتم تلك الألفاظ، وادعيتم أن هذا اللعن ليس على حقيقته، وأن الوقوع في الزنا ليس على حقيقته، والتمستم معاني باطنية لتبرروا طعوناتكم!

 

[1]   «صحيح مسلم» كتاب الجهاد والسير، باب: حكم الفيء (3/1377) برقم (1757).

[2]   «صحيح البخاري» كتاب المغازي، باب: حديث بني النضير، ومخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم في دية الرجلين، وما أرادوا من الغدر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (4/97) برقم (3809).

[3]   «الكافي»، الكليني (1/33).

[4]   «عوائد الأيام»، النراقي (ص463)، كتاب «المكاسب»، الأنصاري (3/551)، و«نهج الفقامة»، محسن الحكيم (ص297)، و«الاجتهاد والتقليد»، الخميني (ص32)، كتاب «البيع»، الخميني (2/645)، «دراسات في ولاية الفقيه الفقيه»، المنتظري (1/467).

[5]   «صحيح البخاري» كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنقبة فاطمة P بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم (5/20) برقم (3508).

[6]   «شرح النهج»، ابن ميثم (5/107).

[7]   «تاريخ المدينة»، ابن شبة (1/211).

[8]   «صحيح البخاري» كتاب الخمس، باب: فرض الخمس (4/79) برقم (2926).

[9]   انظر: «تحرير الأحكام»، الحلي (5/95 -98)، «الينابيع الفقهية»، علي أصغر مرواريد (2/138 -139)، «فقه الصادق»، محمد صادق الروحاني (24/461).

[10]  «الكافي»، الكليني (8/59).

[11]  «مرآة العقول»، المجلسي (25/131).

[12]  «شرح أصول الكافي»، المازندراني (11/398).

[13]  «علل الشرائع»، الصدوق (1/155).

[14]  «أعيان الشيعة»، محسن الأمين (11/308).

[15]  «الأراضي»، محمد إسحاق الفياض (ص278).

[16]  «الكافي»، الكليني (7/412).

[17]  «مرآة العقول»، المجلسي (24/275).

[18]  «إعراب القرآن»، أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النّحّاس (3/50).

[19]  «تفسير مجمع البيان»، الطبرسي (7/84).

[20]  «الصواعق المحرقة»، أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي (1/9).

[21]  راجع: «الجواهر البغدادية» (5/17 -18).

[22]  «صحيح البخاري»، كتاب فضائل الصحابة، باب: قول النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا» (5/7) برقم (3468).

[23]  «صحيح البخاري»، كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطَّاب أبي حفصٍ القرشيّ العدويّ I» (5/11) برقم (3482)، و«صحيح مسلم»، كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر I (4/1859) برقم (2389).

[24]  «صحيح البخاري»، كتاب المغازي، باب: ذكر أمّ سليطٍ (4/1494) برقم (3843).

[25]  «صحيح البخاري»، كتاب الأحكام، باب: هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان؟ (6/2616) برقم (6739).

[26]  «ميزان الحكمة»، محمد الريشهري (٣/٢٥٩٠).

[27]  «العوالم» (ص50).

[28]  «بحار الأنوار»، المجلسي (13/307)، «تفسير العياشي»، محمد بن مسعود العياشي (2/333) «تفسير نور الثقلين»، الحويزي (3/278)، «البرهان»، هاشم البحراني (2/476).

[29]  «الکافي»، الكليني (14/47).