اعتراض عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يوم الحديبية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكره أنه لم يشكَّ منذ أسلم إلا يومئذٍ

الشبهة: مما أثاره الشيعة الإمامية على عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ما حصل منه يوم الحديبية، وقوله: «ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذٍ»، وجعلوا هذا القول كاشفًا عن نفاقه بل عن كفره -وحاشاه-.
قال محمد طاهر القمي الشيرازي: «وزاد الثعلبي عند تفسير سورة الفتح: أن عمر بن الخطَّاب قال: ما شككت منذ يوم أسلمت إلا يومئذٍ. أقول: ولا ريب أن هذه القصة دالة على أن عمر كان شاكًّا في دينه، ولا شك أن الشك في الدين كفر، وانظر أيها اللبيب، كيف صحح هؤلاء المخالفون هذه الحكاية مع أنها صريحة في كفر إمامهم، وليس هذا إلا تسخيرًا من الله عز وجل؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، ويمكن الاستدلال بهذا الحديث على بطلان إمامة عمر» .

الرد علي الشبهة:

أولًا:    هذا الحديث رواه عبد الله بن محمد الجعفي المسندي، كما عند البخاري في «صحيحه»[1]، وأحمد بن حنبل في «المسند»[2]، من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن المسور ومروان، ولم يذكرا فيه هذه الجملة عن عمر.

وخالفهما (إسحاق بن إبراهيم الدبري) كما في «مصنف عبد الرزاق»[3] و(محمد بن المتوكل بن أبي السري) كما عند ابن حبان في «صحيحه»[4]، فروياه عن عبد الرزاق بإثبات هذه الجملة عن عمر I.

وهذه الزيادة منكرة لا تصح:

فإسحاق بن إبراهيم الدبري قد تكلم أهل العلم فيما انفرد به عن عبد الرزاق[5]، وأما محمد بن المتوكل بن أبي السري فهو لين الحديث[6].

ثانيًا:      لو سلمنا بصحة الزيادة، فإن حمل الشك الصادر من عمر I على الشك في الدين، أو في صدق النبيّ H مردود بما ورد في إحدى روايات الحديث أن أبا بكر I لما قال له: يا عمر، الزم غرزه حيث كان، فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد[7].

وإن أريد بالشك في وجود المصلحة من عدمها، فهذا من محض خطور البال، أو الوسوسة التي لا يؤاخذ الإنسان عليها ما لم يستمر عليها، قال الحافظ ابن حجر: «قال السهيلي: هذا الشك هو ما لا يستمر صاحبه عليه وإنما هو من باب الوسوسة، كذلك قال، والذي يظهر أنه توقف منه ليقف على الحكمة في القصة، وتنكشف عنه الشبهة. ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبيّ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاده الحكم بخلاف الثانية، وهي هذه القصة، وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه، وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورًا فيه بل هو مأجور؛ لأنه مجتهد فيه»[8].

وقال السهيلي أيضًا: «وما شككت منذ أسلمت إلَّا تلك السّاعة»: وفي هذا أنَّ المؤمن قد يشكّ، ثمَّ يجدّد النّظر في دلائل الحقّ، فيذهب شكّه. وقد روي عن ابن عبَّاس أنَّه قال: «هو شيء لا يسلم منه أحد»، ثم ذكر ابن عباس قول إبراهيم S: ﴿ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِي ﴾ [البَقَرَةِ: 260]»[9].

ثالثًا:      أن عمر I راجع النبي H في أمر الصلح، وراجع أبا بكر I، ثم ندم على ذلك، حتى قال: «ما زلت أصوم وأتصدَّق وأصلِّي وأعتق من الَّذي صنعت؛ مخافة كلامي الَّذي تكلَّمت به يومئذٍ، حتَّى رجوت أن يكون خيرًا»[10].

رابعًا:     ورد في كتب الشيعة الإمامية ما يدل على أن زرارة بن أعين - الراوي الثقة عندهم - شكّ في صدق الإمام الباقر، ومع ذلك اعتذروا له، ولم يروا فعله كاشفًا عن النفاق، أو الكفر كما فعلوا مع الفاروق عمر I.

والحديث رواه الكليني بإسناده عن زرارة قال: «سألت أبا جعفر S عن الجد، فقال: ما أجد أحدًا قال فيه إلا برأيه إلا أمير المؤمنين S، قلت: أصلحك الله! فما قال فيه أمير المؤمنين S؟ قال: إذا كان غدا فالقني حتى أقرئكه في كتاب، قلت: أصلحك الله! حدثني؛ فإن حديثك أحب إليّ من أن تُقْرِئَنيه في كتاب.

فقال لي الثانية: اسمع ما أقول لك: إذا كان غدًا فالقني حتى أقرئكه في كتاب، فأتيته من الغد بعد الظهر، وكانت ساعتي التي كنت أخلو به فيها بين الظهر والعصر، وكنت أكره أن أسأله إلا خاليًا خشية أن يفتيني من أجل من يحضره بالتقية، فلما دخلت عليه أقبل على ابنه جعفر S فقال له: أقرئ زرارة صحيفة الفرائض، ثم قام لينام فبقيت أنا وجعفر S في البيت، فقام فأخرج إلي صحيفة مثل فخذ البعير، فقال: لست أقرئكها حتى تجعل لي عليك عهد الله أن لا تحدث بما تقرأ فيها أحدًا أبدًا حتى آذن لك، ولم يقل: حتى يأذن لك أبي، فقلت: أصلحك الله، ولم تضيق علي ولم يأمرك أبوك بذلك؟ فقال لي: ما أنت بناظر فيها إلا على ما قلت لك، فقلت: فذاك لك، وكنت رجلًا عالِمًا بالفرائض والوصايا، بصيرًا بها، حاسبًا لها، ألبث الزمان أطلب شيئًا يلقى علي من الفرائض والوصايا لا أعلمه، فلا أقدر عليه فلما ألقى إلي طرف الصحيفة إذا كتاب غليظ يعرف أنه من كتب الأولين فنظرت فيها فإذا فيها خلاف ما بأيدي الناس من الصلة والأمر بالمعروف الذي ليس فيه اختلاف، وإذا عامته كذلك، فقرأته حتى أتيت على آخره بخبث نفس وقلة تحفظ وسقام رأي، وقلت وأنا أقرؤه: باطل، حتى أتيت على آخره، ثم أدرجتها ودفعتها إليه، فلما أصبحت لقيت أبا جعفر S، فقال لي: أقرأت صحيفة الفرائض؟ فقلت: نعم، فقال: كيف رأيت ما قرأت؟ قال: قلت: باطل ليس بشيء هو خلاف ما الناس عليه، قال: فإن الذي رأيت والله، يا زرارة، هو الحق، الذي رأيت إملاء رسول الله H وخط علي S بيده؟ فأتاني الشيطان فوسوس في صدري، فقال: وما يدريه أنه إملاء رسول الله H ، وخط علي S بيده، فقال لي قبل أن أنطق: يا زرارة، لا تشكن، ود الشيطان، والله، أنك شككت، وكيف لا أدري أنه إملاء رسول الله H وخط علي S بيده، وقد حدثني أبي، عن جدي، أن أمير المؤمنين S حدثه ذلك؟ قال: قلت: لا كيف جعلني الله فداك؟ وتندمت على ما فاتني من الكتاب ولو كنت قرأته وأنا أعرفه لرجوت أن لا يفوتني منه حرف»[11].

واعتذر المجلسي لزرارة بقوله: «وهذه الأشياء كانت في بدو أمر زرارة قبل رسوخه في الدين، فلا ينافي جلالته وعلو شأنه»[12].

فانظر كيف برَّر صنيع زرارة، وجعله غير مناف لجلالته ومقامه الرفيع عندهم، مع أنه شكّ في صدق الإمام، لكن إذا تعلق الأمر بأصحاب رسول الله H ، وخاصة الفاروق عمر I، فإن هذه المحامل تختفي!

 

[1]   «صحيح البخاري»، كتاب الشروط، باب: الشروط في الجهاد (3/193) برقم (2731).

[2]   «المسند» (31/243) برقم (18928).

[3]   «مصنف عبد الرزاق»، كتاب المغازي، باب: غزوة الحديبية (5/330) برقم (9720).

[4]   انظر: «الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان»، كتاب السير، باب: ما يستحب للإمام استعمال المهادنة بينه وبين أعداء الله (11/216) برقم (4872).

[5]   انظر: «ميزان الاعتدال في نقد الرجال» (1/181).

[6]   انظر: «الجرح والتعديل»، ابن أبي حاتم (8/105).

[7]   «مسند أحمد» (31/217)، وإسناده حسن.

[8]   «فتح الباري» (5/347).

[9]   «الروض الأنف» ت. الوكيل (6/490).

[10]  «مسند أحمد» (31/217)، وإسناده حسن.

[11]  ورد مختصرًا في كتاب «الكافي»، الكليني. الطبعة الأولى. بيروت: دار الفجر، 1428هـ/2007م، وقد ورد بتمامه في «ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار» (15/227)، وقال المجلسي في مرآة العقول (23/143): صحيح.

[12]  «مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول» (23/145).