قولهم: إن تبشير غير المعصوم بالجنة إغراء بالقبيح، ولا يجوز

الشبهة: قال المفيد: فأما ما ادعوه على النبي صلى الله عليه وآله من قوله: «عشرة من أصحابي في الجنة»، ثم سموا أبا بكر، وعمر، وعثمان، ومن تقدم ذكره فيما حكيناه، فإنه ساقط من غير وجه:
أحدها: أن الذي رواه فيما زعموا عن النبي صلى الله عليه وآله سعيد بن زيد ابن نفيل، وهو أحد العشرة بما تضمنه لفظ الحديث على شرحهم إياه، وقد ثبت أن من زكى غيره بتزكية نفسه لم تثبت تزكيته لذلك في شريعة الإسلام، ومن شهد لغيره بشهادة له فيها نصيب لم تقبل شهادته باتفاق.
ومنها: أن سعيدًا واحد، ورواية الواحد لا يقطع بها على الحق عند الله سبحانه.
ومنها: «أن دليل العقل يمنع من القطع بالجنة والأمان من النار لمن تجوز منه مواقعة قبائح الأعمال ومن ليس بمعصوم من الزلل والضلال؛ لأنه متى قطع له بما ذكرناه، وهو من العصمة خارج بما وصفناه، كان مغرى بمواقعة الذنوب والسيئات، مرحًا في ارتكاب ما تدعوه إليه الطبائع والشهوات؛ لأنه يكون آمنا من العذاب، مطمئنًا إلى ما أخبر به من حسن عاقبته، وقطع له به من الثواب في الجنات، وذلك فاسد لا يجوز على الحكيم سبحانه، ولا يصح منه تدبير العباد» . وذكر مثل ذلك الطوسي في «الاقتصاد» .

الرد علي الشبهة:

أولًا: ما قاله المفيد من أن حديث العشرة المبشرين بالجنة رواية آحاد، ولا يقطع به على الحق، قول فاسد؛ لأن أهل العلم أجمعوا على أن تفرد الصحابي
لا يضر، وكم من حديث آحاد يكون في أعلى درجات الصحة، بل ويجمع المسلمون على العمل به، كحديث: «إنما الأعمال بالنيات»
[1]، وحديث: «كلمتان خفيفتان...»[2].

فالأول لم يرو إلا عن عمر I، والثاني لم يرو إلا عن أبي هريرة I، ومع ذلك تلقتهما الأمة بالقبول.

يقول الشيخ عبد الكريم الخضير -معلقًا على كلام الحافظ-: «تفرد الصحابي لا يضر؛ لأن الواحد من الصحابة يعدل أمة»[3].

وقال ابن القيم: «ولا نعلم أحدًا من أهل العلم قديمًا ولا حديثًا قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يقبل، وإنما يحكى عن أهل البدع ومن تبعهم في ذلك أقوال، لا يعرف لها قائل من الفقهاء... والعجب أن الرادين لهذا الحديث بمثل هذا الكلام قد بنوا كثيرًا من مذاهبهم على أحاديث ضعيفة، انفرد بها رواتها، لا تعرف عن سواهم، وذلك أشهر وأكثر من أن يعد»[4].

قلت: ولو رددنا أحاديث الآحاد لرددنا حديث الكساء الذي لم يصح إلا من رواية أم المؤمنين عائشة J، كما قرر ذلك كثير من علماء أهل السُّنَّة، وآخرهم الشيخ عثمان الخميس في كتابه «الأحاديث الواردة في شأن الحسن والحسين، جمعًا وتخريجًا ودراسة وحكمًا»[5].

ومع ذلك:

فإن حديث العشرة المبشرين بالجنة روي من طرق أخرى غير طريق سعيد ابن زيد:

1-  فروي عن عبد الرحمن بن عوف، كما في مسند أحمد وغيره[6].

2-  وروي عن علي بن أبي طالب، وحديثه في مسند البزار[7].

وهذا مما يبين جهل أو كذب علماء الشيعة فيما ينسبونه لأهل السُّنَّة.

ثانيًا:   قول المفيد: إن من زكى غيره بتزكية نفسه لم تثبت تزكيته لنفسه؛ لأنها شهادة للنفس!

فجوابنا عليه: أن هذا جهل بحقيقة المسألة؛ إذ إن هذا ليس من باب الشهادة، وإنما هو من باب الرواية، والعدل الصادق إذا روى ما يزكي به نفسه لا يجوز لنا رد روايته، فضلًا عن أن هذه التزكية ليست منهم، إنما الذي زكاهم هو الله في كتابه وشهد لهم بالجنة، فقال: ﴿ وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٠٠ ﴾ [التَّوۡبَة: 100] .

ثم زكاهم النبي H في غير ما حديث، ويلزم مما قرره المفيد والطوسي أنه إذا أراد النبي H أن يزكي أصحابه فلا يمكن قبول ذلك منه H قط؛ لأنه لا محالة الذي سينقل ذلك صحابي من الصحابة، وهذا مما يبين فساد ذلك المنهج.

ثالثًا: إن الدليل العقلي الذي ذكره المفيد والطوسي، من أن ذلك فيه إغراء بمواقعة الذنوب والسيئات.

فنقول: إن هذا جهل بالواقع وحقيقة البشرى، فإن التقي إذا بشر بذلك تاقت نفسه إلى الجنة فازداد تقوى وتواضعًا لدينه، وهذا كان واقع أصحاب النبي H لما بشروا بذلك لم يتّكلوا، بل وهانت عليهم أنفسهم في الله.

رابعًا: من العجائب أنه قد ورد في كتب الرَّافضة عشرات الروايات التي تتضمن شهادة المعصوم لغير المعصوم بالجنة، فهل سيقول الرَّافضة: إن الإمام المعصوم يغري بالقبيح، ومواقعة الذنوب والسيئات؟!

وهذه بعض الأدلة على بشارة الإمام المعصوم عند الإمامية لغير المعصوم بالجنة، ففي «معرفة اختيار الرجال» بسنده عن زرارة قال: «قال أبو عبد الله S: يا زرارة، إن اسمك في أسامي أهل الجنة بغير ألف، قلت: نعم، جعلت فداك، اسمي عبد ربه، ولكني لقبت بزرارة»[8].

فهل زرارة معصوم عند الشيعة؟!

وقال الخوئي: «وهناك روايات أخرى مادحة فيها الصحاح، ذكرها الكشي في ترجمة (زرارة)، وليث المرادي، ومحمد بن علي النعمان أبي جعفر الأحول مؤمن الطاق، منها صحيحة جميل، قال: سمعت أبا عبد الله S يقول: بشر المخبتين بالجنة: بريد بن معاوية العجلي، وأبا بصير ليث بن البختري المرادي، ومحمد بن مسلم، وزرارة، أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست»[9].

فهؤلاء أصحاب أئمتهم يقولون: إنهم مبشرون بالجنة، ولم يدّعوا أن في ذلك إغراءً بالقبيح!

واحتج الخوئي برواية فيها تبشير المعصوم لعلباء الأسدي بالجنة، وفيها: «..فقال له أبو عبد الله S: هاته، فوضع بين يديه، فقال له: قبلنا منك ووهبناه لك وأحللناك منه، وضمنا لك على الله الجنة»[10].

قال الخوئي: «أقول: الرواية لا بأس بها، وهي كافية في الدلالة على جلالة علباء الأسدي»[11].

فهنا استدل الخوئي على رواية تبشير علباء الأسدي بالجنة على جلالته. وفي رواية أخرى: «بشّر المعصوم إبراهيم بن أبي محمود بالجنة»[12].

وفي «بصائر الدرجات»: «بشّر المعصوم أبا بصير بالجنة»[13].

ووقوع العبد في الذنب لا يلزم منه القطع بدخوله النار أو الطعن فيه، بل إن الشيعة يقولون بأن الكبائر مغفورة ولو بدون توبة!

قال المفيد: «قوله سبحانه: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا ٤٨ ﴾ [النِّسَاء: 48] ، فأخبر أنه لا يغفر الشرك مع عدم التوبة منه، وأنه يغفر ما سواه بغير التوبة، ولولا ذلك لم يكن لتفريقه بين الشرك وما دونه في حكم الغفران معنى معقول»[14].

وقال مثله الطوسي في «تفسير التبيان»: «ما رواه الصدوق في الأمالي في الصحيح، عن الحسين بن أبي العلاء، عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه، عن آبائه Q قال: «قال أمير المؤمنين S: دخلت أم أيمن على رسول الله H وفي ملحفتها شيء، فقال لها رسول الله H : ما معك يا أم أيمن؟ فقالت: إن فلانة أملكوها قد نثروا عليها فأخذت من نثارها، ثمَّ بكت أم أيمن فقالت: يا رسول الله، فاطمة زوجتها ولم تنثر عليها، فقال رسول الله H : يا أم أيمن، لم تكذبين؟ فإن الله تبارك وتعالى لما زوج فاطمة عليها السلام عليًّا S أمر أشجار الجنة أن تنثر عليهم (أي: على الملائكة والحور العين الذين حضروا في التزويج) من حليها، وحللها، وياقوتها، ودرها، وزمردها، واستبرقها، فأخذوا منها ما لا يعلمون، ولقد نحل الله طوبى في مهر فاطمة فجعلها في منزل عليّ صلوات الله عليهما»[15].

بل قد قال الشيعة: إن أم أيمن «كذبت» وصحح الرواية المجلسي الأول[16].

ومع ذلك قال المعصوم: إنها من أهل الجنة، والرواية معتبرة السند، كما قال هادي النجفي: «... قال: أرأيت أم أيمن؟ فإني أشهد أنها من أهل الجنة، وما كانت تعرف ما أنتم عليه. الرواية معتبرة الإسناد»[17].

فيبدو أن باءكم تجر وباءنا لا تجر!

قال الإمام الكرجي القصاب: «من لم ينصف خصومه في الاحتجاج عليهم، لم يقبل بيانه، وأظلم برهانه»[18].

 

[1]   «صحيح البخاري»، كتاب بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1/6) برقم (1).

[2]   «صحيح البخاري»، كتاب الدعوات، باب: فضل التسبيح (5/2352) برقم (6043).

[3]   «شرح اللؤلؤ المكنون في أحوال الأسانيد والمتون»، عبد الكريم الخضير (ص73) ط. ابن الجوزي.

[4]   «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان» (1/295- 296).

[5]   الأحاديث الواردة في شأن السبطين الحسن والحسين جمعًا وتخريجًا ودراسةً وحكمًا» (ص٢٥٣- ٢٦٨).

[6]   «مسند أحمد» (3/209).

[7]   «مسند البزار» (2/181).

[8]   «اختيار معرفة الرجال»، الطوسي (1/345).

[9]   «معجم رجال الحديث»، الخوئي (4/197).

[10]  «اختيار معرفة الرجال» المعروف بـ«رجال الكَشي»، الطوسي (٢/٣٨).

[11]  «معجم رجال الحديث»، الخوئي (12/198 -199).

[12]  «اختيار معرفة الرجال»، الطوسي (2/838).

[13]  «بصائر الدرجات» الصفار (289).

[14]  «المسائل السرورية» (ص101).

[15]  «تفسير التبيان» (3/218).

[16]  «روضة المتقين»، محمد تقي المجلسي (5/368).

[17]  «موسوعة أحاديث أهل البيت»، هادي النجفي (3/494).

[18]  «نكت القرآن» (2/113).