زعمهم أن عمر رضي الله عنه كان ينهى أبا هريرة عن تدوين السُّنَّة

الشبهة: قالت الشيعة: إن عمر رضي الله عنه كان يمنع تدوين السُّنَّة، ويعاقب من يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما أورده ابن كثير؛ حيث قال: «وقال أبو زرعة الدّمشقيّ: حدّثني محمّد بن زرعة الرّعينيّ، ثنا مروان بن محمّدٍ، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبد الله، عن السّائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطَّاب يقول لأبي هريرة: لتتركنّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لألحقنك بأرض دوسٍ، وقال لكعب الأحبار: لتتركنّ الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة. قال أبو زرعة، وسمعت أبا مسهرٍ يذكره عن سعيد بن عبد العزيز نحوًا منه ولم يسنده» .
قالوا: فها هو عمر يمنع أبا هريرة من التحديث، ويهدده بالنفي!

الرد علي الشبهة:

أولًا:    هذا الأثر غيرُ صحيح، وقد ضعَّفه المعلميُّ بقوله: «وسند الخبر غير صحيح، ولفظه في «البداية»: قال أبو زرعة الدمشقي: حدثني محمد بن زرعة الرعيني، حدثنا مروان بن محمد، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبد الله بن السائب... إلخ. ومحمد بن زرعة لم أجد له ترجمة، والمجهول لا تقوم به حجة، وكذا إسماعيل إلا أن يكون الصواب إسماعيل ابن عبيد الله (بالتصغير) بن أبي المهاجر؛ فثقة معروف، لكن لا أدري أسمع من السائب أم لا؟

 وفي «البداية» عقبه: «قال أبو زرعة: وسمعت أبا مسهر يذكره عن سعيد ابن عبد العزيز نحوًا منه لم يسنده)، أقول: وسعيد لم يدرك عمر ولا السائب، هذا ومخرج الخبر شامي، ومن الممتنع أن يكون عمر نهى أبا هريرة عن الحديث ألبتة، ولا يشتهر ذلك في المدينة، ولا يلتفت إلى ذلك الصحابة الذين أثنوا على أبي هريرة، ورووا عنه، وهم كثير كما يأتي، منهم ابن عمر وغيره، هذا باطل قطعًا»[1].

ثانيًا:      إن هذا الأثر قد بيّن مخرجه صاحب المصدر نفسه، وهو الحافظ ابن كثير I فقد علق قائلًا: «وهذا محمولٌ من عمر على أنَّه خشي من الأحاديث التي قد تضعها الناس على غير مواضعها، وأنهم يتكلمون على ما فيها من أحاديث الرخص، وإن الرّجل إذا أكثر من الحديث ربّما وقع في أحاديثه بعض الغلط أو الخطأ فيحملها النَّاس عنه أو نحو ذلك.

وقد جاء أنَّ عمر كان يأذن لأبي هريرة بالتحديث:

فقال مسدد: حدثنا خالد الطحان، ثنا يَحْيَى بنُ عبد الله، عن أبيه، عن
أبي هريرة قال: بلغ عمر حديثي فأرسل إليّ، فقال: كنت معنا يوم كنّا مع
رسول الله H في بيت فلانٍ؟ قال: قلت: نعم، وقد علمت لم تسألني عن ذلك؟ قال: ولم سألتك؟ قلت: إنَّ رسول الله H قال يومئذٍ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، قال: أمَّا إذًا فاذهب فحدث»
[2].

وفي «تاريخ ابن عساكر» بسنده: «عن أبي هريرة قال: اتهمني عمر بن الخطَّاب، قال: إنك تحدث عن رسول الله H ما لم تسمع منه، هل كنت معنا يوم كان رسول الله H في دار فلان؟ قال أبو هريرة: نعم، وقد علمت لأي شيء سألتني؛ لأن رسول الله H قال يومئذٍ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، فقال عمر: حدث الآن عن النبي H ما شئت»[3].

فهذا مما يدل على أن عمر قد أذن بالتحديث لأبي هريرة I.

ومما يشغب به الشيعة أيضا في هذا المقام: رواية ابن عساكر بسنده، «عن محمد بن عجلان، أن أبا هريرة كان يقول: إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر أو عند عمر لشج رأسي»[4].

قال المعلمي: «ومن قوله في ذلك: «إني أحدثكم أحاديث لو حدثت بها زمن عمر لضربني بالدرة»، وفي رواية: «لشج رأسي». أقول: يروى هذا عن يحيى بن أيوب، عن ابن عجلان، عن أبي هريرة، وابن عجلان لم يدرك أبا هريرة، فالخبر منقطعٌ غير صحيح»[5].

فإنَّ أبا هريرة I قد مات سنة ستين أو قبلها.

قال الإمام الذهبي: «قال عمير بن هانئ العنسيّ: قال أبو هريرة: اللهمَّ لا تدركني سنة ستّين؛ فتوفّي فيها، أو قبلها بسنةٍ»[6].

وأما محمد بن عجلان، فإنه ولد في خلافة عبد الملك بن مروان بعد موت أبي هريرة بزمن، قال الذهبي: «محمّد بن عجلان القرشيّ المدنيّ...ولد في خلافة
عبد الملك بن مروان»
[7]، فالأثر منقطع، ولا يصح.

ثالثًا:   كان مذهب عمر إقلال الرواية عن رسول الله H ليس طعنًا في الصحابة الذين يروون الأحاديث، ولكن حتى لا ينشغل الناس عن القرآن.

قال الذهبي: «كان عمر يقول: أقلّوا الحديث عن رسول الله H وزجر غير واحدٍ من الصَّحابة عن بثّ الحديث، وهذا مذهبٌ لعمر وغيره»[8].

وروى ابن سعد، عن قرظة بن كعبٍ الأنصاريّ قال: «أردنا الكوفة، فشيّعنا عمر إلى صرارٍ، فتوضّأ فغسل مرّتين، وقال: تدرون لم شيّعتكم؟ فقلنا: نعم نحن أصحاب رسول الله H ، فقال: إنّكم تأتون أهل قريةٍ لهم دويٌّ بالقرآن كَدَوِيِّ النَّحلِ فلا تصدّوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جرّدوا القرآن، وأقلّوا الرِّواية عن رسول الله H ، امضوا وأنا شريككم»[9].

رابعًا:     ثبت أن عمر كان عمر يطلب الحديث عن رسول الله H ، فقد روى الإمام أحمد بإسناد حسن، عن ثابت بن قيسٍ، أنَّ أبا هريرة قال: أخذت النَّاس ريحٌ بطريق مكَّة، وعمر بن الخطَّاب حاجٌّ، فاشتدَّت عليهم، فقال عمر لمن حوله: من يحدّثنا عن الرّيح؟ فلم يرجعوا إليه شيئًا، فبلغني الّذي سأل عنه عمر من ذلك، فاستحثثت راحلتي حتَّى أدركته، فقلت: يا أمير المؤمنين، أخبرت أنّك سألت عن الرِّيح، وإنّي سمعت رسول الله H يقول: «الرِّيحُ مِنْ رُوحِ اللهِ، تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ»[10].

فتأمَّل كيف يسارع أبو هريرة إلى التحديث عن رسول الله H أمام عمر، فلو كان يعلم أن عمر I أراد أن ينهاه عن ذلك لاتقاه على أقل تقدير.

وعليه؛ فإن عمر I لم يكن ينهى عن مطلق التحديث، بل كان يأمر بعدم الإكثار منه؛ لأنه كان يرى أن الإسلام لا يزال جديدًا بين الناس، ويرى أن نشر القرآن في تلك المرحلة أولى بالاعتناء من نشر الحديث النبويّ.

خامسًا:   عدد الأحاديث التي رواها عمر عن النبي H بلغ خمسمائة وتسعة وثلاثين حديثًا، كما يقول ابن الملقن V: «روي له عن النبي H خمس مائة حديث وتسعة وثلاثون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم منها على ستة وعشرين حديثًا، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين، ومسلم بواحد وعشرين»[11].

فكيف يقال: إنَّ من يروي هذا العدد كله من الأحاديث يمنع الناس من التحديث ويهدد المحدثين؟!

سادسًا:  إن متن الأثر لا يصح؛ لأن فيه أمرًا بمعصية أخرى، وذلك أن أبا هريرة كان مهاجرًا من أرض دوس، والمهاجر لا يجوز له أن يرجع إلى بلده التي هاجر منها، ومحال أن يأمر عمر بذلك، ثم محال أن يطيع أبو هريرة من يأمره بمعصية كائنًا من كان.

قال المعلمي: «وأبو هريرة كان مهاجرًا من بلاد دوس، والمهاجر يحرم عليه أن يرجع إلى بلده فيقيم بها، فكيف يهدد عمر مهاجرًا أن يرده إلى البلد التي هاجر منها؟! وقد بعث عمر في أواخر إمارته أبا هريرة إلى البحرين على القضاء والصلاة، كما في «فتوح البلدان» للبِلَاذُرِي[12]، وبطبيعة الحال كان يعلمهم، ويفتيهم، ويحدثهم»[13].

سابعًا:  أن يقال: ما الذي يزعج الشيعة في ذلك، وقد رووا في كتبهم كذبًا أن
أبا هريرة كان يكذب على رسول الله H ؟!

فقد روى الصدوق بسنده، عن جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه، قال: «سمعت جعفر بن محمد R يقول: ثلاثة كانوا يكذبون على رسول الله: أبو هريرة...»[14].

وهم يعتقدون صحة ذلك، فلماذا يشغبون على عمر لمنعه أبا هريرة من التحديث؟!

على أنني أقول: إن هذه فرية ما فيها مرية، وذلك لعدة أمور:

1-  إن هذا الخبر الوارد في الخصال للصدوق لا يجوز الاحتجاج به عند السُّنَّة والشيعة. أما عند أهل السُّنَّة: فالأمر واضح؛ فنحن لا نعتد برواية الرَّافضة الذين هم أكذب خلق الله على الإطلاق، فأسانيد رواياتهم إما ملفقة مختلقة، وإن سلمت من ذلك فرجالها: إما كذبة، وإما مجاهيل، وإما كفار، وذلك بإقرارهم هم.

وأما عند الشيعة، فهذه الرواية لا تصح سندًا؛ لأن الإسناد فيه (جعفر بن محمد بن عمارة الكندي)، وهو مجهولٌ عند الرَّافضة، ولم يذكروه بجرحٍ ولا تعديل، كما قال الشاهروردي: «لم يذكروه»[15]؛ لذا فهو مجهولٌ لا يصح حديثه.

 2- إن هذا الخبر ساقطٌ من جهة المتن؛ لإجماع أمة الإسلام على صدق أبي هريرة I، وأنه جاوز القنطرة، ومن جرح من اتفقت الأمة على توثيقه، فهو المجروح.

ثامنًا:   إن الذي كتم العلم، ومنع السُّنَّة، هم أئمة الشيعة، فقد روى الكليني بسنده، عن أبي عبد الله S في حديث طويل، ورد فيه: «...ثمَّ كان محمّد بن عليٍّ أبو جعفرٍ، وكانت الشِّيعة قبل أن يكون أبو جعفرٍ، وهم لا يعرفون مناسك حجّهم وحلالهم وحرامهم، حتَّى كان أبو جعفرٍ، ففتح لهم، وبيَّن لهم مناسك حجّهم وحلالهم وحرامهم»[16].

 فهذا علي، والحسنان، والسجاد، يكتمون حديث رسول الله H وسنته عن شيعتهم، فلم يعلموهم أحكام دينهم.

وقد رووا في «الكافي»[17]، و«الرسائل»[18] عن سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد الله: «يا سليمان، إنكم على دين من كتمه أعزه الله، ومن أذاعه أذله الله».

ولذلك؛ فإن روايات دينهم صنعت في زمان متأخر جدًّا.

يقول محمد الباقر البهبودي: «قد عرفت في بحث الشذوذ عن نظام الإمامة أن الأحاديث المروية في النصوص على الأئمة، جملة من خبر اللوح وغيره، كلها مصنوعة في عهد الغيبة والحيرة، وقبلها بقليل، فلو كانت هذه النصوص المتوفرة موجودة عند الشيعة الإمامية، لما اختلفوا في معرفة الأئمة الطاهرة هذا الاختلاف الفاضح، ولما وقعت الحيرة لأساطين المذهب وأركان الحديث سنوات عديدة، وكانوا في غنى أن يتسرعوا إلى تأليف الكتب لإثبات الغيبة وكشف الحيرة عن قلوب الأمة بهذه الكثرة»[19].

وورد أيضًا في كتب الرَّافضة:

 أن زرارة بن أعين أراد أن يحرق الأحاديث لمجرد أنه لم يفهمها، فقد روى الصفار بإسناده، عن الحسن بن موسى، عن زرارة قال: دخلت على أبي جعفرٍ S فسألني: ما عندك من أحاديث الشِّيعة؟ قلت: إنّ عندي منها شيئًا كثيرًا، قد هممت أن أوقد لها نارًا ثمَّ أحرقها، قال: ولم؟ هات ما أنكرت منها، فخطر على بالي الأمور، فقال لي: ما كان على الملائكة حيث قالت: ﴿ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٣٠ ﴾ [البَقَرَةِ: 30]»[20].

وقال المجلسي معلقًا على هذه الرواية: «لعل زرارة كان ينكر أحاديث من فضائلهم لا يحتملها عقله، فنبهه بذكر قصة الملائكة، وإنكارهم فضل آدم عليهم، وعدم بلوغهم إلى معرفة فضله، على أن نفي هذه الأمور من قلة المعرفة، ولا ينبغي أن يكذب المرء بما لم يحط به علمه، بل لا بد أن يكون في مقام التسليم، فمع قصور الملائكة -مع علو شأنهم- عن معرفة آدم لا يبعد عجزك عن معرفة الأئمة»[21].

أفبعد هذا كله يتجرأ شيعي ويقول: إنكم منعتم تدوين السُّنَّة؟!

 

[1]   «الأنوار الكاشفة» (ص164).

[2]   «البداية والنهاية»، ابن كثير (8/115).

[3]   «تاريخ دمشق»، ابن عساكر (67/344 - 345).

[4]   السابق (67/343).

[5]   «الأنوار الكاشفة» (ص155).

[6]   «سير أعلام النبلاء»، الذهبي (2/626).

[7]   السابق (6/317).

[8]   «سير أعلام النبلاء»، الذهبي (1/40).

[9]   «الطبقات الكبرى»، ابن سعد (7/6).

[10]  «مسند أحمد» (13/69) برقم (7631).

[11]  «الإعلام بفوائد عمدة الأحكام»، ابن الملقن (1/142).

[12]  «فتوح البلدان»، البلاذري (ص92 93).

[13]  «الأنوار الكاشفة» (ص165).

[14]  «كتاب الخصال»، الصدوق (ص190).

[15]  «مستدركات علم الرجال»، الشاهرودي (ص290).

[16]  «الكافي»، الكليني (2/19 -21)، وقال المجلسي عن الرواية في «مرآة العقول»: «صحيح بسنديه» (7/108).

[17]  «الكافي» (2/222).

[18]  «رسائل الخميني» (2/185).

[19]  «معرفة الحديث وتاريخ نشره وتدوينه وثقافته عند الشيعة الإمامية»، محمد الباقر البهبودي (ص172).

[20]  «بحار الأنوار» (25/282).

[21]  السابق نفسه.