قول عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه حسبنا كتاب الله

الشبهة: من أبرز الشبهات التي تثار حول عمر الفاروق رضي الله عنه موقفه يوم رزية الخميس، وقوله: حسبنا كتاب الله، فقد جعل الرَّافضة هذا دليلًا على عدم إقراره بالسّنّة، وإنكاره لها.
قال ابن جرير الطبري الشيعي: «ثم قال: حسبنا كتاب الله، وفي هذا القول كفر بالله العظيم؛ لأن الله جل ذكره يقول: ﵟمِنكُمۡۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْﵞ ﵝالحَشۡر: ﵗﵜ ، فزعم عمر أنه لا حاجة له فيما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لعلمه أن الرسول يريد تأكيد الأمر لعلي عليه السلام، ولو علم أن الأمر له أو لصاحبه لبادر بالدواة والصحيفة» .
وقال التيجاني: «إن هذه المقولة جاءت ردًّا مطابقًا تمامًا لمقصود الحديث، فمقولة: (عندكم القرآن، حسبنا كتاب الله) مخالفة لمحتوى الحديث الذي يأمرهم بالتمسك بكتاب الله وبالعترة معًا، فكأن المقصود هو: حسبنا كتاب الله فهو يكفينا، ولا حاجة لنا بالعترة...
وأما إذا طرحت التعصب الأعمى والعاطفة الجامحة، وحكمت العقل السليم والفكر الحر، لملت إلى هذا التحليل، وذلك أهون من اتهام عمر بأنه أول من رفض السُّنَّة النبوية بقوله: حسبنا كتاب الله» .

الرد علي الشبهة:

أولًاقول عمر I: «حسبنا كتاب الله» كان حسمًا للخلاف الذي وقع بين الحاضرين، وليس مسلَّطًا على أمر النبي H ، وهذا ظاهر من قوله: (عندكم كتاب الله)، فإن المخاطب جمع، وهم المخالفون لعمر I في رأيه، وإلا فعمر I من أشد الناس اتباعًا للنبي H .

ثم لو ادعى مدعٍ أنَّ عليَّ بن أبي طالب I كان ممن قال بقول عمر I، أو ممن خالفه، لما وجد إلى ذلك سبيلًا، فكلا الأمرين جائز محتمل.

ثانيًا:   إنّه قد ظهر لعمر I ومن كان على رأيه من الصحابة، أن أمر الرسول H بكتابة الكتاب ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح، وقد نبه على هذا القاضي عياض[1]، والقرطبي[2]، والنووي[3]، وابن حجر[4].

ثم إنه قد تبين بعد هذا صحة اجتهاد عمر I، وذلك بترك الرسول H كتابة الكتاب، ولو كان واجبًا لم يتركه لاختلافهم؛ لأنه لن يترك التبليغ لمخالفة من خالف، ولهذا عدّ هذا من موافقاته I.

ثالثًا:   لا يفهم من قول عمر I أنه قصد الاستغناء عن سنة النبي H ، ومن زعم ذلك من المبتدعة فزعمه لا دليل عليه؛ لأن عمر I لم يرد بقوله هذا الاستغناء عن بيان السُّنَّة المطهرة، بل قال ما قاله لما قام عنده من القرينة بالاجتهاد السائغ على أنَّ كتابة هذا الكتاب مما سبق تأصيله في كتاب الله D.

وقال الخطَّابي: «لم يتوهم عمر الغلط فيما كان النبي H يريد كتابته، بل امتناعه محمول على أنه لما رأى ما هو فيه من الكرب وحضور الموت، خشي أن يجد المنافقون سبيلًا إلى الطعن فيما يكتبه، وإلى حمله على تلك الحالة التي جرت العادة فيها بوقوع بعض ما يخالف الاتفاق، فكان ذلك سبب توقف عمر I، لا أنه تعمد مخالفة النبي H ، ولا جواز الغلط عليه، حاشا وكلّا»[5].

رابعًا:     ادعاء الرَّافضة أن سبب منع عمر I من كتابة الكتابة، هو علمه أن النبي H كان سيكتب وصيةً لعلي بن أبي طالب I، ادعاء باطل، دون إثباته خرط القتاد.

ثم ما الداعي أصلًا إلى هذا الكتاب، وهم يزعمون أنه نصّب يوم الغدير؟!

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي، فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السُّنَّة والشيعة، أما أهل السُّنَّة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه، وأما الشيعة القائلون بأن عليًّا كان هو المستحق للإمامة، فيقولون: إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصًّا جليًّا ظاهرًا معروفًا، وحينئذٍ فلم يكن يحتاج إلى كتاب»[6].

خامسًا: كيف يعقل أن عمر I أراد من هذه الكلمة إنكار السُّنَّة، مع ما قد ورد عنه مما يدل على تقريره لوجوب العمل بها.

وقد أورد ابن القيم جملةً من الآثار المنقولة عن عمر I في هذا الباب، فقال: «قال ابن وهب: أخبرني ابن لهيعة، عن عبد الله بن أبي جعفر قال: قال عمر ابن الخطَّاب I: السُّنَّة ما سنّه الله ورسوله H ، لا تجعلوا خطأ الرأي سنّة للأمة.

قال ابن وهب: وأخبرني ابن لهيعة، عن أبي الزناد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، أن عمر بن الخطَّاب I قال: أصبح أهل الرأي أعداء السنن، أعيتهم أن يعوها، وتفلتت منهم أن يرووها، فاستبقوها بالرأي.

وذكر ابن عجلان، عن صدقة بن أبي عبد الله، أن عمر بن الخطَّاب كان يقول: أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم.

وذكر ابن الهادي، عن محمد بن إبراهيم التيمي قال: قال عمر بن الخطَّاب: إياكم والرأي؛ فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها، وتفلتت منهم أن يحفظوها، فقالوا في الدين برأيهم.

قال الشعبي: عن عمرو بن الحارث قال: قال عمر بن الخطَّاب I: إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فضلّوا وأضلّوا...

 وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة»[7].

فكيف يقال بعد هذا: إن عمر I ممن ينكر السُّنَّة، ولا يقيم لها وزنًا، وحاشاه؟

سادسًا: إِنْ كان عمر I لا يرى حجية السُّنَّة، ولا وجوب اتباعها، والاكتفاء بالقرآن فقط -كما فهمه المخالفون- فلماذا نجد عليَّ بن أبي طالب I يثني عليه بأنه أقام السُّنَّة؟!

وذلك كما جاء في أحد خطبه: «لله بلاء فلانٍ؛ فلقد قوَّم الأود، وداوى العمد، وأقام السُّنَّة، وخلّف الفتنة، ذهب نقيّ الثّوب قليل العيب، أصاب خيرها وسبق شرّها، أدّى إلى الله طاعته واتّقاه بحقّه، رحل وتركهم في طرقٍ متشعّبةٍ، لا يهتدي بها الضّالّ، ولا يستيقن المهتدي»[8].

والمراد بفلان: عمر I على المشهور.

يقول محمد جواد مغنية: «لله بلاء أو بلاد فلان... إلخ، قيل: المراد بفلان أبو بكر، وقيل: عمر، وهو الأشهر، وأيًّا كان؛ فإن الناس كانوا سعداء مع رسول الله H ، وما سد فراغه أبو بكر ولا عمر، ولكن عهدهما كان أفضل من عهد عثمان الذي فتح على أمة محمد H باب القتل والقتال إلى يوم القيامة، فلا فتنة في عهد الشيخين، ولا خلافة موروثة، ولا كسروية وقيصرية، ولا طاغية يتخذ مال الله دولًا، وعباده حولًا»[9].

وقال ابن ميثم البحراني: «وقوله: لله بلاء فلان، لفظ يقال في معرض المدح كقولهم: لله دره، ولله أبوه، والمنقول أن المراد بفلان عمر»[10].

سابعًا:   هذه العبارة التي أنكرها القوم على عمر I، قد ورد في كتبهم ما يشبهها عن علي بن أبي طالب I.

فقد جاء في «نهج البلاغة»: «فكفى بالجنّة ثوابًا ونوالًا، وكفى بالنَّار عقابًا ووبالًا، وكفى بالله منتقمًا ونصيرًا، وكفى بالكتاب حجيجًا وخصيمًا»[11].

وقد حمل بعضهم قوله: «كفى بالكتاب حجيجًا وخصيمًا» على كتابة الملائكة لأعمال العباد، وهذا لا شك صرفٌ للكلام عن ظاهره، يأباه سياق النص، ويردّه ما ورد في ألفاظ أخرى لهذه الخطبة.

منها: ما أورده المجلسي: «وكفى بالله منتقمًا ونصيرًا، وكفى بكتاب الله حجيجًا وخصيمًا»[12]، وهذا نصٌّ لا يمكن تأويله، أو حمله على ما سبق؛ للتصريح فيه بكون المراد بالكتاب: كتاب الله تعالى.

فهل يفهم منه أن عليًّا I -وحاشاه- ممن لا يقرُّ بالسُّنَّة، أو ينكر الاحتجاج بها؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!

 

[1]   «إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم»، القاضي عياض (5/381).

[2]   «المفهم»، القرطبي (4/560).

[3]   «شرح مسلم»، النووي (11/78).

[4]   «فتح الباري»، ابن حجر (8/134).

[5]   السابق نفسه.

[6]   «منهاج السُّنَّة النبوية»، ابن تيمية (6/25 -26).

[7]   «إعلام الموقعين، ابن القيم (1/43).

[8]   «نهج البلاغة»، الشريف الرضى (ص350).

[9]   «في ظلال نهج البلاغة محاولة لفهم جديد»، محمد جواد مغنية (3/330).

[10]  «شرح نهج البلاغة»، كمال الدين بن ميثم بن علي البحراني (4/87).

[11]  «نهج البلاغة»، الشريف الرضى (ص112).

[12]  «بحار الأنوار»، المجلسي (74/441).