زعمهم أن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه سُئل عن الكلالة فلم يعلمها

الشبهة: يقول محمد المظفر -في سياق ذكره للمطاعن على عمر رضي الله عنه-: «وأفضح من ذلك جهل عمر بمعنى الكلالة» .
ويقول محمد التيجاني: «وقد سئل عن الكلالة فلم يعلمها. أخرج الطبري في تفسيره عن عمر أنه قال: لأن أكون أعلم الكلالة أحب إليّ من أن يكون لي مثل قصور الشام.
كما أخرج ابن ماجه في سننه عن عمر بن الخطَّاب قال: ثلاث لأن يكون رسول الله بيَّنَهن أحب إليّ من الدنيا وما فيها: الكلالة، والربا، والخلافة. سبحان الله! حاشا لرسول الله أن يكون سكت عن هذه الأشياء ولم يبينها» .

الرد علي الشبهة:

أولًا:    أخرج مسلمٌ في صحيحه، عن معدان بن أبي طلحة: «أنَّ عمر بن الخطَّاب، خطب يوم جمعةٍ، فذكر نبيّ الله H ، وذكر أبا بكرٍ، ثمَّ قال: إنّي لا أدع بعدي شيئًا أهمّ عندي من الكلالة، ما راجعت رسول الله H في شيءٍ ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيءٍ ما أغلظ لي فيه، حتَّى طعن بإصبعه في صدري، وقال: «يَا عُمَرُ، أَلَا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ؟ وَإنِّي إِنْ أَعِشْ أَقْضِ فِيهَا بِقَضِيَّةٍ يَقْضِي بِهَا مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَمَنْ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ»»[1].

وهذا الحديث يدل على أن عدم معرفة عمر I بالكلالة لم يكن سببها قصور علمٍ؛ وإنما أراد النبيّ H أن يعتني عمر وغيره من الصحابة بالاستنباط من النصوص، فأخفى النص الصريح، واكتفى بإرشاده إلى الآية التي تكفيه لإدراك معنى الكلالة، يدل عليه قوله: «يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟» وهي قوله تعالى: ﴿ يَسۡتَفۡتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِي ٱلۡكَلَٰلَةِۚ إِنِ ٱمۡرُؤٌاْ هَلَكَ لَيۡسَ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَهُۥٓ أُخۡتٞ فَلَهَا نِصۡفُ مَا تَرَكَۚ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهَا وَلَدٞۚ فَإِن كَانَتَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَۚ وَإِن كَانُوٓاْ إِخۡوَةٗ رِّجَالٗا وَنِسَآءٗ فَلِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۗ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّواْۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ ١٧٦ ﴾ [النِّسَاء: 176]

قال الإمام النووي: «ولعل النبيَّ H إنما أغلظ له لخوفه من اتكاله واتكال غيره على ما نص عليه صريحا وتركهم الاستنباط من النصوص، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا ٨٣ ﴾ [النِّسَاء: 83] ، فالاعتناء بالاستنباط من آكد الواجبات المطلوبة؛ لأن النّصوص الصّريحة لا تفي إلَّا بيسيرٍ من المسائل الحادثة، فإذا أهمل الاستنباط، فات القضاء في معظم الأحكام النّازلة أو في بعضها»[2].

ثانيًا:   إن هذا الأثر الوارد عن عمر I، وهو قوله: «لأن أعلم الكلالة، أحب إليّ من أن يكون لي مثل جزية قصور الروم»، (وليس قصور الشام، كما نقل التيجاني) إن صح، فغاية ما يفيده أن عمر I أراد معرفة الكلالة من النبي H حتى يكون حكمه موافقًا للصواب، لا خاضعًا للاجتهاد فحسب، وهذا من حرصه على معرفة الحق والصواب في هذه المسألة؛ فهل هذا مما يذم به؟!

ثالثًا:      إن الخبر الذي أخرجه ابن ماجه في «سننه»[3] عن عمر I أنه قال: «ثلاث لِأَنْ يكون رسول الله بينهن...» خبرٌ منقطع؛ لأن مرة بن شراحيل الهمداني لم يدرك عمر I، وقد ضعّفه الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه[4].

رابعًا:   إنَّ أحدًا لم يدَّع أن الصحابة -بما فيهم عمر بن الخطَّاب I- يتحتَّم علمهم بجميع مسائل الشرع، أو أن الخطأ وعدم فهم أمر ما غير جائز في حقهم.

ثمَّ يقال: ما جواب الرَّافضة عما ورد في كتبهم من جهل المعصومين بالأحكام الشرعية وغيرها؟!

روى الطوسي بسنده عن إسحاق بن عَمَّار، عن أبي عبد الله S قال: «سألته عن المذي فقال: إن عليًّا S كان رجلًا مذاءً، واستحيا أن يسأل رسول الله H ؛ لمكان فاطمة عليها السلام، فأمر المقداد أن يسأله وهو جالس، فسأله فقال له: «لَيْسَ بِشَيْءٍ»»[5].

فهذا الإمام علي بن أبي طالب I كان يجهل حكم المذي حتى سأل رسول الله H عنه.

وروي أيضًا عن عليٍّ I أنَّه قال: قال لنا رسول الله H : «أَيُّ شَيْءٍ خَيْرٌ لِلْمَرْأَةِ؟» فلم يجبه أحدٌ منّا، فذكرت ذلك لفاطمة I فقالت: ما من شيءٍ خيرٌ للمرأة من أن لا ترى رجلًا ولا يراها، فذكرت ذلك لرسول الله H فقال: صَدَقَتْ؛ إِنَّها بَضْعَةٌ مِنِّي»[6].

وقد ورد في رواية أخرى أن عدم جوابهم -بما فيهم علي بن أبي طالب I- كان جهلًا منهم بالجواب.

قال الأربلي: «وروي عن علي S قال: كنا عند رسول الله H فقال: «أخبروني أي شيء خير للنساء؟» فعيينا بذلك كلنا حتى تفرقنا، فرجعت إلى فاطمة عليها السلام، فأخبرتها الذي قال لنا رسول الله H ، وليس أحد منا علمه ولا عرفه، فقالت: ولكني أعرفه، خير للنساء أن لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال...»[7].

وجاء في «الكافي» بسنده عن عن أبي عبد الله S قال: قال أمير المؤمنين S: عرضت على رسول الله H ابنة حمزة، فقال: «أَمَا علمت أنّها ابنة أخي من الرّضاع؟»[8].

وهذا الحديث فيه نسبة الجهل للإمام المعصوم من جهتين:

1-  جهله بالواقع، وهو أن هذه المرأة ابنة أخ رسول الله H من الرضاعة.

2-  جهله بحكم الزواج من ابنة الأخ من الرضاع.

يقول المجلسي عن الحديث: «يحتمل أن يكون نزل حكم تحريم الرضاع في ذلك الوقت، ولم يطلع S بعد عليه، أو إنما سأل ذلك ليظهر للناس سبب إعراضه، H »[9].

وروى الطوسي أيضًا بسنده عن سلمة بن محرز، قال: «قلت لأبي عبد الله S: إن رجلًا أرمانيًّا مات، وأوصى إليّ، فقال: وما الأرماني؟ قلت: نبطي من أنباط الجبال».[10]

فكيف يجهل المعصوم -الذي لا يخفى عليه شيء- معنى (الأرماني)؟

خامسًا:  إذا سلمنا أن عمر I جهل حكم هذه المسألة الفقهية في الميراث، واعتبر هذا مطعنًا، وبابًا للتشنيع عليه، فما بال الرَّافضة لم يفعلوا نفس الأمر تجاه أصحاب الأئمة الذين جهلوا أصل الدين وهو الإمامة، وجهلوا أسماء الأئمة، كما حدث للكثيرين، وعلى رأسهم زرارة بين أعين، الذي جهل من هو الإمام بعد جعفر الصادق I؟!

قال محمد آصف محسني: «ولكن العجب من مثل زرارة الذي له صلة قديمة بالباقر والصادق Q وله مقام علمي ممتاز؛ كيف لم يكن عارفًا بوصي الصادق S، بل بأعيان الأئمة الباقية إلى ولي العصر (عجل الله تعالى فرجه)؟! وهذه المعرفة وإن لم تكن واجبة على مثل زرارة، لكن جهل زرارة بمثلها عجيب جدًّا، ولعلّه لقلة اعتنائه بمسألة الخلافة عن الصادق S كل الاعتناء، أو أن الصادق S لم ير مصلحة لتعريف وصيه له ولكثير من أصحابه»[11].

وبعد أن تعجّب محسني من جهل زرارة - وهو من هو في دين القوم - بمسألة الإمامة، وجهله بالوصي بعد الصادق، أراد أن يبرّر هذه المصيبة بأمرين، أحلاهما مر:

1-  أن زرارة كان قليل الاعتناء بمسألة الإمامة. وهذا يلزم منه الطعن في زرارة؛ إذ كيف يجوز في حقه أن لا يعتني بأصلٍ من أصول الدين ينبني عليه إيمان وكفر -عندهم-؟!

2-  أن جعفر الصادق لم ير مصلحة في تعريف زرارة وغيره من المقربين باسم الوصي من بعده، وهذا فيه طعن واضح في الصادق، وأنه فرط في تعليم شيعته، بل كبار أتباعه، بأهم مسائل الدين عندهم!

*  فأيهما أشنع؟ من جهل مسألة فقهية فرعية؟ أم من جهل مسألة أصلية عقدية؟ أم من جهل أهم أركان الدين وأعظمها؟!

 


[1]   «صحيح مسلم»، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوهما (1/396) برقم (567)، وفي كتاب الفرائض، باب: ميراث الكلالة (3/1236) برقم (1617).

[2]   «شرح النووي على مسلم»، النووي (11/57).

[3]   «سنن ابن ماجه»، أبواب الفرائض، باب: الكلالة (4/29) برقم (2727).

[4]   انظر: «صحيح وضعيف سنن ابن ماجه»، الألباني (6/227).

[5]   «تهذيب الأحكام»، الطوسي (1/17). قال المجلسي في «ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار» (1/96) عن الحديث: «الحديث التاسع والثلاثون: موثق».

[6]   «دعائم الإسلام»، القاضي النعمان المغربي (2/215).

[7]   «كشف الغمة»، ابن أبي الفتح الإربلي (2/94).

[8]   «الکافي»، الكليني (10/868)، وقد صحح هذه الرواية جملة من علماء الشيعة، منهم المجلسي الأب في روضة المتقين (٨/٢٣٦)، والمجلسي الابن في مرآة العقول (٢٠/٢٢٠)، ويوسف البحراني في الحدائق الناضرة (٢٣/٢١٨)، والحلي في تذكرة الفقهاء (٢/٦١٤)، وغيرهم كثير.

[9]   «مرآة العقول» (٢٠/٢٠٤).

[10]  «تهذيب الأحكام»، الطوسي (9/277). وانظر: المجلسي في «ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار» (15/240).

[11]  «معجم الأحاديث المعتبرة»، محمد آصف محسني (1/136-137).