زعمهم أن طلب عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه شاهدين عند جمع القرآن، جهلٌ بالقرآن

الشبهة: قال المجلسي في «البحار» - وهو يعدد المطاعن في أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: «ومنها أنه - أي عمر- لما أمر أن يجمع ما تهيأ له من القرآن أمر مناديًا ينادي في المدينة: من كان عنده شيء من القرآن فليأتنا به»، ثم قال: «لا نقبل من أحد شيئًا إلا بشاهدي عدل».
وهذا منه مخالف لكتاب الله؛ إذ يقول: ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) [الإسراء: ٨٨]، فذلك غاية الجهل وقلة الفهم، وهذا الوجه أحسن أحوالهما، ومن حل هذا المحل لم يجز أن يكون حاكمًا بين المسلمين فضلًا عن منزلة الإمامة، وإن كانا قد علما ذلك من كتاب الله، ولم يصدقا
إخبار الله فيه، ولم يثقا بحكمه في ذلك، كانت هذه حالًا توجب عليهما ما لا خفاء به على كل ذي فهم، ولكن الأئمة من أهل البيت قالوا: إنهما قصدا بذلك عليًّا فجعلا هذا سببًا لترك قبول ما كان علي جمعه وألفه من القرآن في مصحفه بتمام ما أنزل الله على رسوله منه، وخشيا أن يقبلا ذلك منه، فيظهر ما يفسد عليهما عند الناس ما ارتكباه من الاستيلاء على أمورهم، ويظهر فيه فضائح المذمومين بأسمائهم وطهارة الفاضلين المحمودين بذكرهم، فلذلك قالا: لا نقبل القرآن من أحد إلا بشاهدي عدل، هذا مع ما يلزم من يتولاهما أنهما لم يكونا عالمين بتنزيل القرآن؛ لأنهما لو كانا يعلمانه لما احتاجا أن يطلباه من غيرهما ببينة عادلة، وإذا لم يعلما التنزيل كان محالًا أن يعلما التأويل، ومن لم يعلم التنزيل ولا التأويل كان جاهلًا بأحكام الدين وبحدود ما أنزل الله على رسوله، ومن كان بهذه الصفة خرج عن حدود من يصلح أن يكون حاكمًا بين المسلمين أو إمامًا لهم» .

الرد علي الشبهة:

أولًا:  إن الرواية التي فيها أن عمر I كان لا يقبل من أحد قرآنًا إلا بشاهدي عدل، لا تصح إسنادًا ولا متنًا.

ففي «المصاحف» لابن أبي داود: «حدَّثنا عبد الله قال: حدثنا أبو الطّاهر، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني عمر بن طلحة اللّيثيّ، عن محمّد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى بن عبد الرَّحمن بن حاطبٍ قال: أراد عمر بن الخطَّاب أن يجمع القرآن، فقام في النَّاس فقال: «من كان تلقّى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصّحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحدٍ شيئًا حتَّى يشهد شهيدان، فقتل وهو يجمع ذلك إليه فقام عثمان بن عفّان فقال: من كان عنده من كتاب الله شيءٌ فليأتنا به، وكان لا يقبل من ذلك شيئًا حتَّى يشهد عليه شهيدان، فجاء خزيمة بن ثابتٍ فقال: إنّي قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما. قالوا: وما هما؟ قال: تلقّيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ ﴾ [التَّوۡبَة: ١٢٨] ، إلى آخر السّورة قال عثمان: فأنا أشهد أنّهما من عند الله فأين ترى أن نجعلهما؟ قال: اختم بها آخر ما نزل من القرآن فختمت بها براءة»[1].

أولًا: من ناحية السند:

1-  محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص، أبو عبد الله الليثي: «صدوق له أوهام. قال ابن خيثمة: سئل ابن معين عن محمد بن عمرو، فقال: ما زال الناس ينقون حديثه. قيل له: وما علة ذلك؟ قال: كان يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء من روايته، ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وقال الجوزجاني: ليس بقوي الحديث ويشتهى حديثه»[2].

وقال الحافظ: «مشهور من شيوخ مالك، صدوق تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه، وأخرج له الشّيخان، أما البخاريّ فمقرونًا بغيره وتعليقًا، وأما مسلم فمتابعة»[3].

2-  الانقطاع: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب لم يسمع من عمر I.

قال ابن أبي حاتم: «عن يحيى بن معينٍ قال: يحيى بن عبد الرَّحمن بن حاطبٍ، منهم من يقول سمع من عمر وهذا باطلٌ»[4].

ومن ثمَّ، فالرواية ضعيفة الإسناد؛ لأن فيها محمد بن عمرو بن علقمة، وهو صدوقٌ له أوهام، والإسناد أيضًا منقطع؛ لأن يحيى بن عبد الرحمن لم يلق عمر بن الخطَّاب I.

ثانيًا: من ناحية المتن:

أما المتن ففيه نكارةٌ واضحة؛ لأنه يدل على أن عمر بن الخطَّاب I هو الذي قام بجمع المصحف، فقتل ولم يتم ذلك حتى أكمله عثمان I بعد ذلك، فأتاه خزيمة بن ثابت بخاتمة براءة، وهذا مخالفٌ لما هو معروف وثابت؛ إذ الراجح أن الذي أتى بخاتمة براءة هو أبو خزيمة، وهذا هو الوارد في صحيح البخاري، قال: «حتَّى وجدت آخر سورة التّوبة مع أبي خزيمة الأنصاريّ لم أجدها مع أحدٍ غيره»[5].

قال الحافظ: «والأرجح أنَّ الّذي وجد معه آخر سورة التّوبة، أبو خزيمة بالكنية، والّذي وجد معه الآية من الأحزاب خزيمة»[6].

وقال: «والصّحيح ما في الصّحيح، وأنّ الّذي فقده في خلافة أبي بكرٍ الآيتان من آخر براءةٌ»[7].

فهذه نكارةٌ في المتن توجب إسقاط الرواية.

وثمّة روايةٌ أخرى في المصاحف تشير إلى أن من أمر بذلك هو أبو بكر I:

قال ابن أبي داود: «حدَّثنا عبد الله قال: حدَّثنا أبو الطّاهر، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني ابن أبي الزّناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: لمَّا استحرّ القتل بالقرّاء يومئذٍ، فرق أبو بكرٍ على القرآن أن يضيع، فقال لعمر بن الخطَّاب، ولزيد ابن ثابتٍ: «اقعدوا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيءٍ من كتاب الله فاكتباه»[8].

وهذه منقطعة، قال الحافظ ابن حجر: «ورجاله ثقاتٌ مع انقطاعه»[9]، وقال ذلك السيوطي أيضًا في الإتقان[10].

ومن ثمَّ، فجميع الروايات التي وردت في ذلك لم تصح.

ثانيًا:   لو تنزلنا وقلنا بأنها صحيحة، فلا مطعن في ذلك، وليس المراد بالشاهدين، كما قال المجلسي: شاهدي عدل، بل كما قال الحافظ في «الفتح»: «وكأنّ المراد بالشاهدين الحفظ والكتاب، أو المرادُ أنّهما يشهدان على أنَّ ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو المرادُ أنّهما يشهدان على أنَّ ذلك من الوجوه الَّتي نزل بها القرآن، وكان غرضهم أن لا يكتب إلَّا من عين ما كتب بين يدي النَّبي صلى الله عليه وسلم لا من مجرّد الحفظ»[11].

قال السيوطي: «قال السّخاويّ في جمال القرّاء: المراد أنّهما يشهدان على أنَّ ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو المرادُ أنّهما يشهدان على أنَّ ذلك من الوجوه الَّتي نزل بها القرآن».

قال أبو شامة: «وكان غرضهم ألا يكتب إلَّا من عين ما كتب بين يدي النَّبي صلى الله عليه وسلم لا من مجرّد الحفظ. قال: ولذلك قال في آخر سورة التّوبة: لم أجدها مع غيره، أي لم أجدها مكتوبةً مع غيره؛ لأنَّه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة. قلت: أو المراد أنّهما يشهدان على أنَّ ذلك ممّا عرض على النَّبي صلى الله عليه وسلم عام وفاته»[12].

وبناء على ما تقدم؛ فالشاهدان قد يراد بهما الحفظ والكتابة، وقد يراد بهما الأشخاص، لكن هذا لم يثبت حتى نجزم به في المسألة، وبه يثبت خطأ الرافضي المتقوّل على أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب I.

وأيضًا، فإن الشهادة -وإن ثبتت- فقد كانت على أن هذا كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا على قرآنية ذلك من عدمه.

يقول الشيخ علي سليمان العبيد: «وليس المقصود بالشهادة هنا على قرآنية المكتوب، فقرآنيته بلا شك ثابتة متواترة بحفظ المئات من الصحابة، وإنما على أنه كتب بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فكما هو معلوم كان للصحابة M مصاحف خاصة بهم كتبوها في بيوتهم لأنفسهم».

قال أبو شامة -موضحًا ذلك-: «لم تكن البينة على أصل القرآن، فقد كان معلومًا لهم كما ذكر، وإنما كانت على ما أحضروه من الرقاع المكتوبة فطلب البينة عليها أنها كانت كتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإذنه على ما سمع من لفظه؛ ولهذا قال: فليمل سعيد، يعني من الرقاع التي أحضرت، ولو كانوا كتبوا من حفظهم لم يحتج زيد فيما كتبه إلى من يمليه عليه.

إذًا، فالمقصود الشهادة على كونها مكتوبة لا كونها محفوظة، وهكذا كان منهج الجمع: عدم الاكتفاء بما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم الاكتفاء بما كتباه وقت نزول الوحي، وعدم الاكتفاء بما حفظاه، والطلب من الصحابة الآخرين بما حفظوه وكتبوه، على أن لا يقبل هذا المكتوب إلاّ أن يأتي صاحبه بشاهدي عدل يشهدان على كتابته بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ويطابق ما هو محفوظ في صدورهم»[13].

قال السيوطي: «قلت: أو المراد أنّهما يشهدان على أنَّ ذلك ممّا عرض على النَّبي صلى الله عليه وسلم عام وفاته»[14].

وبه يظهر سخافة الاعتراض بقوله تعالى: ﴿ قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا ٨٨ ﴾ [الإِسۡرَاء: ٨٨].

هذا، ونحن -أهل السُّنَّة- الذين قلنا بحفظ القرآن وعدم تحريفه.

قال الذهبي: «أمّا القرآن العظيم -سوره وآياته- فمتواترٌ -ولله الحمد- محفوظٌ من الله تعالى لا يستطيع أحدٌ أن يبدّله، ولا يزيد فيه آيةً، ولا جملةً مستقلّةً، ولو فعل ذلك أحدٌ عمدًا، لانسلخ من الدِّين، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩ ﴾ [الحِجۡر: ٩] »[15].

ثالثًا:      إن هذا لو ثبت لكان مدحًا لعمر I؛ لأن الأمر إنما كان استيثاقًا واحتياطًا لكتاب الله، وهو ممدوح بلا شك؛ لأن بعض الآيات قد تكون نسخت تلاوة، أو زيد فيها بعض الكلمات من الوحي، أو ليست على العرضة الأخيرة، ولأجل هذا المعنى ترك النبي صلى الله عليه وسلم جمعه في مصحف واحد.

قال البغوي: «فثبت أنَّ القرآن كان مجموعًا محفوظًا كلّه في صدور الرّجال أيّام حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم مؤلّفًا هذا التّأليف...، ويشبه أن يكون النَّبي صلى الله عليه وسلم إنَّما ترك جمعه في مصحفٍ واحدٍ؛ لأنّ النّسخ كان يرد على بعضه، ويرفع الشّيء بعد الشّيء من تلاوته، كما ينسخ بعض أحكامه، فلو جمعه، ثمَّ رفعت تلاوة بعضه أدّى ذلك إلى الاختلاف، واختلاط أمر الدِّين، فحفظه الله في القلوب إلى انقضاء زمان النّسخ، ثمَّ وفّق لجمعه الخلفاء الرّاشدين»[16].

رابعًا:   لا يلزم من ذلك جهل زيد بن ثابت، أو عمر، أو أبي بكر M بالقرآن، كما قال المجلسي.

قال بدر الدين العيني -وهو يجيب عن إشكال إلحاقهم آخر براءة بالمصحف مع أنهم لم يجدوها مكتوبة إلا عند أبي خزيمة- قال: «قيل: كيف ألحقها بالمصحف وشرط القرآن التّواتر؟ وأجيب بأنّه كانت مسموعة عندهم من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسورتها وموضعها معلومة لهم، ففقدوا كتابتها. قيل: لما كان القرآن متواترًا، فما هذا التتبع والنّظر في العسب؟ وأجيب للاستظهار، وقد كتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعلم هل فيها قراءة لغير قراءته من وجوهها أم لا. قيل: شرط القرآن كونه متواترًا، فكيف أثبت فيه ما لم يجده مع أحد غيره؟ وأجيب: بأن معناه لم يجده مكتوبًا عند غيره، وأيضًا لا يلزم من عدم وجدانه أن لا يكون متواترًا، وأن لا يجد غيره، أو الحفاظ نسوها ثمَّ تذكروها»[17].

وقال الحافظ: «وكان لا يقبل من أحدٍ شيئًا حتَّى يشهد شاهدان، وهذا يدلّ على أنَّ زيدًا كان لا يكتفي بمجرّد وجدانه مكتوبًا حتَّى يشهد به من تلقّاه سماعًا، مع كون زيدٍ كان يحفظه وكان يفعل ذلك مبالغةً في الاحتياط»[18].

قال مكي بن أبي طالب: «قول زيد بن ثابت: «جمعت القرآن من صدور الرجال»، فإنما معنى ذلك أنه استوثق فيما نقل بحفظ غيره مع حفظه»[19].

قال الحافظ: «والّذي يظهر من كثيرٍ من الأحاديث أنَّ أبا بكرٍ كان يحفظ القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تقدّم في المبعث أنَّه بنى مسجدًا بفناء داره فكان يقرأ فيه القرآن، وهو محمولٌ على ما كان نزل منه إذ ذاك وهذا ممّا لا يرتاب فيه، مع شدّة حرص أبي بكرٍ على تلقّي القرآن من النَّبي صلى الله عليه وسلم، وفراغ باله له وهما بمكّة، وكثرة ملازمة كلٍّ منهما للآخر، حتَّى قالت عائشة كما تقدّم في الهجرة أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يأتيهم بكرةً وعشيّةً، وقد صحّح مسلمٌ حديث: «يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب الله». وتقدّمت الإشارة إليه، وتقدّم أنَّه صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكرٍ أن يؤمّ في مكانه لمَّا مرض، فيدلّ على أنَّه كان أقرأهم»[20].

خامسًا:  إن الذي ذكره المجلسي فيه إقرار بالقول بالتحريف؛ لأنه قال: «ولكن الأئمة من أهل البيت قالوا: إنهما قصدا بذلك عليًّا، فجعلا هذا سببًا لترك قبول ما كان عليّ جمعه وألفه من القرآن في مصحفه بتمام ما أنزل الله على رسوله منه، وخشيَا أن يقبلا ذلك منه، فيظهر ما يفسد عليهما عند الناس ما ارتكباه من الاستيلاء على أمورهم، ويظهر فيه فضائح المذمومين بأسمائهم، وطهارة الفاضلين المحمودين بذكرهم»[21].

فهذا إقرار من المجلسي بالتحريف، وأن القرآن الذي عندهم فيه أسماء الممدوحين والمذمومين، وقد صرحوا بذلك كثيرًا في كتبهم.

حتى قال المجلسي عن روايات تحريف القرآن: «إن الأخبار في هذا الباب متواترة معنىً، وطرح جميعها يوجب رفع الاعتماد عن الأخبار رأسًا...»[22].

يقول نعمة الله الجزائري: «نقول: إن الأخبار المستفيضة، بل المتواترة، قد دلت على وقوع الزيادة والنقصان والتحريف في القرآن، منها: ما روي عن مولانا أمير المؤمنين S لما سئل عن التناسب بين الجملتين في قوله تعالى: ﴿ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ ٣ ﴾ [النِّسَاء: 3] ، فقال S لقد سقط أكثر من ثلث القرآن.

ومنها: ما روى عن الصادق S في قوله تعالى: ﴿ كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ ﴾ [آل عِمۡرَان: 110] ، قال: كيف يكون هذه الأمة، وقد قتلوا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ليس هكذا نزلت، وإنما نزلوها: (كنتم خير أئمة يعنى: الأئمة من أهل البيت).

ومنها: ما روي في الأخبار المستفيضة في أن آية الغدير هكذا نزلت: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك في علي فإن لم تفعل فما بلغت رسالاته)، إلى غير ذلك مما لو جمع لصار كتابًا كبير الحجم.

وأما الأزمان التي ورد على القرآن فيها التحريف والزيادة والنقصان فهما عصران: العصر الأول: عصره صلى الله عليه وسلم وأعصار الصحابة، وذلك من وجوه: أحدها: أن القرآن كان ينزل منجمًا على حسب المصالح والوقائع، وكتاب الوحي كانوا ما يقرب من أربعة عشر رجلًا من الصحابة، وكان رئيسهم أمير المؤمنين S وقد كانوا في الأغلب ما يكتبون إلا ما يتعلق بالأحكام، وإلا ما يوحى إليه في المحافل والمجامع.

وأما الذي كان يكتب ما ينزل في خلواته ومنازله، فليس هو إلا أمير المؤمنين؛ لأنه S كان يدور معه كيف ما دار، فكان مصحفه أجمع من غيره من المصاحف، ولما مضى صلى الله عليه وسلم إلى لقاء حبيبه، وتفرقت الأهواء بعده، جمع أمير المؤمنين القرآن كما أنزل وشده بردائه، وأتى به إلى المسجد وفيه الأعرابيان
وأعيان الصحابة.

فقال S لهم: هذا كتاب ربكم كما أنزل، فقال له الأعرابي الجلف: ليس لنا فيه حاجة، هذا عندنا مصحف عثمان، فقال: لن تروه، ولن يراه أحد حتى يظهر ولدي صاحب الزمان؛ فيحمل الناس على تلاوته والعمل بأحكامه، ويرفع الله سبحانه هذا المصحف إلى السماء، ولما خلف ذلك الأعرابي احتال في استخراج ذلك المصحف؛ ليحرقه كما أحرق مصحف ابن مسعود، فطلبه من أمير المؤمنين S فأبى، وهذا القرآن عند الأئمة يتلونه في خلواتهم، وربما أطلعوا عليه بعض خواصهم»[23].

أفبعد هذا يذم من استوثق من حفظ الصحابة للقرآن -على فرض صحة الرواية- أم من قال بتحريفه وافترى على الوحي الشريف؟!

 

[1]   «المصاحف»، ابن أبي داود (62).

[2]   «تهذيب التهذيب»، ابن حجر (9/376).

[3]   «فتح الباري»، ابن حجر (1/441).

[4]   «المراسيل»، ابن أبي حاتم (ص246).

[5]   «صحيح البخاري» كتاب فضائل القرآن، باب: جمع القرآن (4/1907) برقم (4701).

[6]   «فتح الباري»، ابن حجر (9/15).

[7]   السابق (9/21).

[8]   «المصاحف»، ابن أبي داود (ص51).

[9]   «فتح الباري»، ابن حجر (9/14).

[10]  «الإتقان في علوم القرآن» (1/205).

[11]  «فتح الباري»، ابن حجر (9/14- 15).

[12]  «الإتقان في علوم القرآن» (1/205- 206).

[13]  «جمع القرآن الكريم حفظا وكتابة»، علي بن سليمان العبيد (ص39 83).

[14]  «الإتقان في علوم القرآن» (1/206).

[15]  «سير أعلام النبلاء» (10/171).

[16]  «شرح السُّنَّة» للبغوي (4/519).

[17]  «عمدة القاري شرح صحيح البخاري» (20/19).

[18]  «فتح الباري»، ابن حجر (9/14).

[19]  «الإبانة عن معاني القراءات» (ص102).

[20]  «فتح الباري»، ابن حجر (9/52).

[21]  «بحار الأنوار»، المجلسي (30/355).

[22]  «مرآة العقول» (12/525).

[23]  «منبع الحياة وحجية قول المجتهد من الأموات»، نعمة الله الجزائري (ص66).