حديث رمي البطاقة في النيل

الشبهة: قال أبو الشيخ: «حدَّثنا أبو الطيب، حدَّثنا عليُّ بن داود، حدَّثنا عبد الله بن صالحٍ، حدَّثنا ابن لهيعة، عن قيس بن الحجَّاج، عمّن حدَّثه قال: لَمَّا فتحت مصر أتي عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه حين دخل يومٌ من أشهر العجم فقالوا: أيُّها الأمير، إنَّ لنِيلِنَا هذا سُنَّةً لا يجري إلَّا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إذا كان إحدى عشرة ليلةً تخلو من هذا الشّهر، عمدنا إلى جاريةٍ بكرٍ بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الثِّيَاب أفضل ما يكون، ثمَّ ألقيناها في هذا النيل. فقال لهُ عمرٌو رضي الله عنه: إنَّ هذا لا يكون أبدًا في الإسلام، وإنَّ الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا يومهم، والنيل لا يجري قليلًا ولا كثيرًا، حتَّى همُّوا بالجَلَاءِ، فلمَّا رأى ذلك عمرٌو رضي الله عنه كتب إلى عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه بذلك، فكتب أن قد أصبت بالذي فعلت، وإنَّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وبعث بطاقةً في داخل كتابه، وكتب إلى عمرٍو رضي الله عنه: إنِّي قد بعثت إليك بطاقةً في داخل كتابي إليك، فألقها في النيل، فلمَّا قدم كتاب عمر رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه أخذ البطاقة ففتحها، فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى نيل أهل مصر، أمَّا بعد، فإن كنت تجري من قِبَلِك فلا تجر، وإن كان الله يجريك، فأسأل الله الواحد القهَّار أن يجريك، قال: فألقى البطاقة في النَّيل قبل الصَّليب بيومٍ، وقد تهيَّأ أهل مصر للجلاء منها؛ لأنَّه لا تقوم مصلحتهم فيها إلَّا بالنّيل، فلمَّا ألقى البطاقة أصبحوا يوم الصَّليب، وقد أجراه الله عز وجل ستّة عشر ذراعًا في ليلةٍ واحدةٍ، وقطع الله تلك السُّنَّة السُّوء عن أهل مصر إلى اليوم» .

الرد علي الشبهة:

أولًا: إن هذه الرواية فيها علتان على الأقل.

العلة الأولى: عبد الله بن لهيعة، قال الإمام النسائي: «ضعيف»[1]، وقال الإمام ابن الجوزي: «قال يحيى بن سعيد: قال لي بشر بن السّري: لو رأيت ابن لهيعة لم تحمل عنه حرفًا، وكان يحيى بن سعيد لا يراه شيئًا، وقال يحيى بن معين: أنكر أهل مصر احتراق كتب ابن لهيعة والسّماع منه، وأخذ القديم والحديث، هو ضعيف قبل أن تحترق كتبه وبعد احتراقها، وقال عمرو بن عليٍّ: من كتب عنه قبل احتراقها بمثل ابن المبارك والمقري أصح ممّن كتب بعد احتراقها، وهو ضعيف الحديث، وقال أبو زرعة: سماع الأوائل والأواخر منه سواء إلَّا ابن المبارك وابن وهب، كانا يتبعان أصوله، وليس ممّن يحتج به، وقال النَّسائيُّ: ضعيف، وقال السَّعديُّ: لا ينبغي أن يحتج بروايته، ولا يعتد بها، وقال ابن وهب: كان ابن لهيعة صادقًا، وقال أبو حاتم ابن حبان: سبرت أخبار ابن لهيعة، فرأيته يدلس عن أقوام ضعفاء على أقوام ثقات قد رآهم، ثمَّ كان لا يبالي ما دفع إليه قرأه سواء كان من حديثه، أو لم يكن من حديثه، فوجب التنكب عن رواية المتقدِّمين عنه قبل احتراق كتبه؛ لما فيها من الأخبار المدلسة عن المتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخّرين بعد احتراق كتبه؛ لما فيها ممّا ليس من حديثه»[2].

العلة الثانية: عدم معرفة الواسطة بين قيس بن الحجاج وعمرو بن العاص.

قال الحافظ ابن حجر: «ولا يقبل حديثُ المبهَمِ ما لم يسمَّ؛ لأنَّ شرط قبول الخبر عدالة راويه، ومن أبهم اسمه لا تعرف عينه، فكيف تعرف عدالته؟»[3].

وقيس بن الحجاج من الطبقة السادسة، كما قال الحافظ في «التقريب»[4].

وهذه الطبقة لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة.

قال الحافظ ابن حجر: «السادسة: طبقة عاصروا الخامسة، لكن لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة»[5].

ومن ثمَّ؛ فإن قيس بن الحجاج لم ير عمرو بن العاص، ولم ير عمر بن الخطَّاب، وقد روى القصة عنهما عن طريق مبهم لم يسم.

وبه تبطل القصة إسنادًا.

ثانيًا: إن هذه القصة، لو ثبتت، فهي من باب دعاء الله بما هو مشروع؛ للتخلص من شرك وكفر كان يقع فيه هؤلاء، وتكون من باب استجابة الله لدعاء أوليائه، وهذا حاصلٌ كثيرًا، ولا إشكال في ذلك.

ثالثًا: جاء عند الشيعة نسبة فعل ذلك إلى المعصوم، لكن بالطلاسم، وقد ذكره ابن حمزة الطوسي في «الثاقب في المناقب»: «عن أبي عبد الله، أنه قال: مد الفرات عندكم على عهد أمير المؤمنين، فأقبل إليه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين، نحن نخاف الغرق؛ لأن الفرات قد جاء بشيء من الماء لم نر مثله قط، وقد امتلأت جنبتاه، الله الله. فركب أمير المؤمنين، والناس حوله يمينًا وشمالًا، حتى انتهى إلى الفرات وهو يزجر بأمواجه، فوقف الناس ينظرون، فتكلم بكلام خفي عبراني ليس بعربي، ثم إنه قرع الفرات قرعة واحدة فنقص الفرات ذراعًا، وأقبل الناس».

وفي رواية أخرى فقال لهم: «هل يكفيكم ذلك؟ فقالوا: زدنا يا أمير المؤمنين، فقرع قرعة أخرى فنقص ذراعًا آخر، فقالوا: يكفينا، فقال: لو أردت لقرعته حتى لا يبقى فيه شيء من الماء»[6].

فها هو علي بن أبي طالب I ينسب الشيعة إليه في كتبهم أنه كان يتكلم بطلاسم؛ لتقع له الكرامة نفسها... فأيهما أولى بذلك المطعن؟! من دعا الله بكلام مفهوم واضح موافق للكتاب، أم من يتكلم بكلام أشبه بكلام الكهان؟!

 

[1]   «الضعفاء والمتروكون»، أحمد بن علي بن شعيب النسائي (1/203).

[2]   «الضعفاء والمتروكون»، عبد الرحمن بن علي بن الجوزي (2/137).

[3]   «نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر»، ابن حجر (ص101).

[4]   «تقريب التهذيب»، ابن حجر (٢/٣٢).

[5]   «طبقات المدلسين» تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس، ابن حجر (ص9).

[6]   «الثاقب في المناقب»، ابن حمزة الطوسي (ص155 -156).