زعمهم تجسس عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قوم في دارهم

الشبهة: يقول محمد طاهر القمي الشيرازي: «ومنها: أنه تجسس على قوم في دارهم، ذكره الطبري، والرازي، والثعلبي، والقزويني، والبصري، وفي محاضرات الراغب، وإحياء الغزالي، وقوت القلوب المالكي، فقال أصحاب الدار: أخطأت لقوله تعالى: (وَلَا تَجَسَّسُواْ )الحُجُرَات: ودخلت من غير باب لقوله تعالى: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)ا لبَقَرَةِ: ، ودخلت من غير إذن لقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) النور

الرد علي الشبهة:

أولًا: سأذكر مصادر جميع الروايات التي وردت في هذا الموضوع، دون ذكر متونها، سوى متن الرواية الصحيحة، حتى لا يطول الرد، ثم أعرّج بذكر حكم أهل العلم على تلك الروايات، أو بيان عللها:

الحديث الأوّل: وهو الذي أورده صاحب كتاب «الأربعين»: رواه أبو بكر محمّد بن جعفر الخرائطيّ (ت327هـ) في «مكارم الأخلاق»، وأسنده البخاريّ في «التّاريخ الكبير»، وكذا العسكريّ في كتاب «الأوائل»[1].

الحكم على الرواية:

قال محقّق «مكارم الأخلاق»: «سنده ضعيف»[2]. عبد اللّه بن صالح كثير الغلط.

وفي «فتاوى اللّجنة الدّائمة» المجموعة الأولى: «هل صحيح ما يروى عن عمر بن الخطَّاب I من أنَّه ذات مرّة قفز جدران أحد المنازل، ثمَّ وجد بداخله أناسًا يشربون الخمر، فقالوا له: نحن ارتكبنا إثمًا واحدًا، وأنت ارتكبت ثلاثة: لم تستأذن، ولم تأتنا من الباب، وتجسّست علينا؟».

الجواب: لم تثبت هذه القصّة لدينا بعد تتبّع ما كتب عن عمر I في كتب التّاريخ والتّراجم، ثمَّ هي لا تتناسب مع خلق عمر وسيرته، ويبعد أن يجرؤ عليه أمثال هؤلاء، وهم مرتكبون لجريمة شرب الخمر، بل المعهود أنّهم يخجلون، ويصيبهم الخزي؛ لمكانهم من الجريمة، ولما لعمر I من المهابة. وبالله التّوفيق، وصلّى الله على نبيّنا محمّد وآله وصحبه وسلّم[3].

الحديث الثاني: في «مصنّف عبد الرزّاق»[4].

الحكم على الرواية:

وهذه رواية منقطعة، فطاووس بن كيسان لم يرو عن عمر. قال الذهبي: «أراه ولد في دولة عثمان I أو قبل ذلك»[5].

الحديث الثالث: في «مصنّف عبد الرزّاق»[6].

قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، عن معمرٍ، عن الزّهريّ، عن مصعب بن زرارة بن عبد الرَّحمن، عن المسور بن مخرمة، عن عبد الرَّحمن بن عوفٍ، أنَّه حرس ليلةً مع عمر بن الخطَّاب فبينا هم يمشون شبّ لهم سراجٌ في بيتٍ، فانطلقوا يؤمّونه، حتَّى إذا دنوا منه إذا بابٌ مجافٍ على قومٍ لهم فيه أصواتٌ مرتفعةٌ ولغطٌ، فقال عمر وأخذ بيد عبد الرَّحمن: أتدري بيت من هذا؟ قال: قلت: لا، قال: هو بيتُ ربيعة بن أميَّة ابن خلفٍ وهم الآن شربٌ، فما ترى؟ قال عبد الرَّحمن: أرى قد أتينا ما نهانا الله عنه، نهانا الله فقال: ﴿ وَلَا تَجَسَّسُواْ ﴾ [الحجرات 12]، فقد تجسّسنا، فانصرف عنهم عمر وتركهم[7].

الحديث الرّابع: في «مصنّف عبد الرزّاق»[8].

الحكم على الرواية:

إسناد هذه القصَّة ضعيف جدًّا؛ فإنَّ أبا قلابة الجرميّ، وإن كان ثقةً فاضلًا إلَّا أنَّه كثير الإرسال، ولم يسمع من عمر؛ فالإسناد منقطع.

وحاشا عمر I أن يترك إقامة الحدّ، لو ثبت عنده، لتعليلٍ غير سديدٍ، بل ورد في هذه الرِّواية -على ضعفها- أنَّه لم يجده يشرب الخمر[9].

الحديث الخامس: في «التَّوبيخ والتَّنبيه»[10].

الحكم على الرواية:

قال محقّق «التَّوبيخ والتَّنبيه»: «إسناده ضعيف جدًّا؛ لأجل محمّد بن حميد»[11].

وقال محقّق «التّرغيب والتّرهيب» لقوّام السُّنَّة: «منقطع؛ السّدي الكبير لم يدرك عمر I، ومظنّة القصّة من طريق السّدّي عند ابن جرير في التَّفسير»[12].

الحديث السّادس: في «سنن سعيد بن منصور»[13].

الحكم على الرواية:

قال محقِّقو «سنن سعيد بن منصور»: «سنده ضعيف؛ للانقطاع بين الحسن البصريّ وعمر بن الخطَّاب»[14].

والخلاصة: أن جميع الروايات التي ذكرت أن عمر I تسور الجدار، ودخل البيت بغير إذن، وتجسس بغير تهمة، كلها لا تصح، والرواية الصحيحة لهذه الواقعة ليس فيها إلا أن عمر وعبد الرحمن اتبعا أمارة على شيء - أثناء حراستهما - من صميم عملهم، فلما اقتربا من البيت سمعا لغطًا، ولم يدخلا البيت، ولم يكشفا ما ستره الله، ولم يقصدا تجسسًا.

 وأما قول عبد الرحمن: «تجسسنا»، فالظاهر من الرواية أنه من باب المبالغة، وإلا فلم يتجسسا، وإنما سمعا ما سمعاه عرضًا دون تعمد التجسس، ولكن الورع يجعل صاحبه يتهم نفسه بما ليس فيه.

ثانيًا:   حتى لو قلنا بأنه كان ثمة تجسس، فإن من ولي شيئًا من أمور المسلمين ينبغي له أن يطلع على صغير أمورهم وكبيرها، فإنه مسؤول عنها، ومتى غفل عنها خسر الدنيا والآخرة... وكان عمر I من شدة حرصه على تعرف الأحوال، وإقامة قسطاس العدل، وإزاحة أسباب الفساد، وإصلاح الأمة يعس بنفسه، ويباشر أمور الرعية سرًّا في كثير من الليالي[15].

قال ابن عرفة: «من هو مستور الحال فلا يحلّ التجسّس عليه، ومن اشتهر بشرب خمر ونحوه فالتجسّس عليه مطلوب أو واجب». قلت: معناه: التجسّس عليه بالشم ونحوه ليقام عليه الحد، لا دخول داره لينظر ما فيها من الخمر ونحوه، فإنه منهي عنه، وأمّا فعل عمر I فحالٌ غالبة، يقتصر عليها في محلها»[16].

إذًا فالتجسس المنهي عنه هو ما كان في غير ريبة؛ ولذلك أدخل النبي H يده في طعام ظاهره الصلاح، كما عند مسلم من حديث أبي هريرة أنَّ رسول الله H مرّ على صبرة طعامٍ فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا فقال: «ما هذا يا صاحب الطّعام؟» قال: أصابته السَّماء يا رسول الله، قال: «أفلا جعلته فوق الطّعام كي يراه النَّاس؟ من غشّ فليس منّي»[17].

ثالثًا:   إن في هذه القصة دليلًا على ورع عمر I وأنه لا يضيع رعيته، ومع ذلك فهو وقّاف عند حدود الله، وإذا ذكّر تذكر، بل وقد قال العالم الشيعي محمد حسين فضل الله - في تعليقه على القصة -: «ونأخذ من سند الرواية درسًا، وهو أن المسلمين كانوا في تلك المرحلة يشعرون بالأمن أمام الاعتراض على السلطات، وكانوا لا يخافون من الاعتراض عليها، فلقد كان عمر الخليفة الزمني، ومع ذلك، فإن هذا الرجل المسلم الذي ارتكب معصية، استطاع بعقل بارد وبأعصاب هادئة أن يردّ عليه، وأن يحاكمه بعد أن كان هو المحكوم»[18].

ومن ثم، فالرواية ليست إلا مدحًا لأمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب I من كل وجه.

رابعًا:   إن الشيعة أنفسهم قالوا بجواز التجسس في مثل هذه الحالات، بمحض الظن والريبة، ورووا في ذلك روايات كثيرة، ومن ذلك ما ذكره العالم الشيعي المنتظري؛ حيث قال: «ويدل على وجوب الاستخبارات وضرورتها إجمالًا - مضافًا إلى ما يأتي بالتفصيل من الروايات الخاصة - أن حفظ نظام المسلمين وكيانهم يتوقف على الحذر من الأعداء بمراقبتهم والتجسس على القرارات والتحركات الصادرة عنهم، وحيث إن حفظ النظام من أهم ما اهتم به الشرع وأوجبه على الدولة والأمة، فلا محالة وجبت مقدماته بحكم العقل والفطرة. ويستفاد وجوب حفظ النظام - مضافًا إلى كونه ضروريًّا وبديهيًّا - من أخبار كثيرة مضى أكثرها في الأبواب والفصول السابقة»[19].

وقال أيضًا: «ففي كتابه إلى حذيفة بن اليمان عامله على المدائن: وقد وليت أموركم حذيفة بن اليمان، وهو ممن أرضى بهداه، وأرجو صلاحه، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم والشدة على مريبكم، والرفق بجميعكم...».
وفي كتابه إلى أهل مصر لما ولى عليهم قيس بن سعد: «وقد بعثت لكم قيس بن سعد الأنصاري أميرًا فوازروه وأعينوه على الحق، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم والشدة إلى مريبكم، والرفق بعوامكم وخواصكم، وهو ممن أرضى هديه وأرجو صلاحه ونصحه». وفي «الغرر والدرر» للآمدي عن أمير المؤمنين
S: «أقم الناس على سنتهم ودينهم، وليأمنك بريئهم، وليخفك مريبهم، وتعاهد ثغورهم وأطرافهم».

وفي «نهج البلاغة»: «ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبدًا».

أقول: قال ابن الأثير في «النهاية»: «قد تكرر في الحديث ذكر الريب، وهو بمعنى الشك، وقيل: هو الشك مع التهمة، يقال: رابني الشيء وأرابني، بمعنى: شككني»[20].

قلت: استدل المنتظري بهذه النصوص وغيرها على وجوب أن تتجسس الدولة على الناس بمجرد الشك، وإحسان الظن بمن ظهرت منه أمارات الفسق
لا يجوز، وقد جاء في «نهج البلاغة»: «وقال
S: إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ثم أساء رجل الظن برجل لم تظهر منه خزية فقد ظلم، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله فأحسن رجل الظن برجل فقد غرر»[21].

وقد سئل علي الخامنئي عن حكم الدخول إلى أماكن تجمع المفسدين والتجسس عليهم، فأجاز ذلك:

س317: ربما يرى بعض عناصر الأمن لزوم الدخول في بعض المراكز والاختلاط بالجمعيات؛ لغرض كشف مراكز الفحشاء والمجموعات الإرهابية، كما تقتضيه أساليب التجسس والتحقيق، فما حكم مثل هذه الأعمال شرعًا؟
جـ: لا مانع منها إذا كانت بإذن المسؤول المختص، ومع الالتزام بمراعاة الحدود والمقررات القانونية، ومع الاجتناب عن التلوث بالمعصية وفعل الحرام، ويجب على مسؤوليهم رعايتهم والعناية بهم من هذه الجهة بشكل تام
[22].

فيقال إذًا:

أحرام على بلابله الدوح   **  حلال للطير من كل جنس

فإذا كان عمر بن الخطَّاب I لم يأت بمحرم، لا عند أهل السُّنَّة ولا عند الشيعة، فلم التشغيب عليه إذًا؟!

كما أنه يلزمكم في علمائكم مثل ما ذكرتموه في أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب I من القدح.

 


[1]   محمّد بن جعفر الخرائطيّ» (ت327هـ) في «مكارم الأخلاق» (ص907) برقم (563)، والبخاريّ في «التّاريخ الكبير» (2/178) برقم (2122) باب: (ثور)، والعسكريّ في كتاب «الأوائل» (ص157) (أوّل من عسّ باللّيل).

[2]   «مكارم الأخلاق»، د. عبد الله بن بجاش بن ثابت الحميريّ (ص907 909).

[3]   «فتاوى اللّجنة الدّائمة» المجموعة الأولى (26/6).

[4]   «مصنّف عبد الرزّاق» (10/231) برقم (18942).

[5]   «سير أعلام النبلاء» (5/39).

[6]   «مصنّف عبد الرزّاق» (10/231 -232) برقم (18943).

[7]   «مصنف عبد الرزاق الصنعاني» (10/231)، ومن طريق عبد الرزّاق رواه البيهقيّ في «سننه الكبرى» (8/578-579) برقم (17625)، والخرائطيّ في «مكارم الأخلاق» (ص909-910) برقم (564)، والحاكم في «المستدرك» (4/531) برقم (8216)، وقال: «هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ولم يخرِّجاه» ووافقه الذهبيّ.

[8]   «مصنّف عبد الرزّاق» (10/232 -233) برقم (18944).

[9]   انظر: «موقع الألوكة»، «مجالس العلوم الشّرعيّة»، «مجلس الحديث وعلومه»، «بيان ضعف قصّة شرب أبي محجن للخمر لسالم بن محمّد العماري» بتاريخ 03/01/2013م.

[10]  «التّوبيخ والتّنبيه» (ص136-137) برقم (106)، لأبي الشّيخ الأصبهانيّ (ت:369هـ)، تحقيق وتعليق: أبي الأشبال حسن بن أمين بن المندوه، ط/الأولى 1407هـ الجيزة.

[11]  «التّوبيخ والتّنبيه» (ص136-137) الهامش (106).

[12]  «التّرغيب والتّرهيب لقوّام السُّنَّة» في (1/398)

[13]  «سنن سعيد بن منصور» (7/394)، برقم (2028).

[14]  «سنن سعيد بن منصور» (7/394) برقم (2028)، وعزاه السّيوطي في «الدّرّ المنثور» (13/570) للمصنّف وابن المنذر.

[15]  انظر: «المستطرف في كل فن مستطرف»، شهاب الدين الأبشيهي (ص344).

[16]  «البحر المديد في تفسير القرآن المجيد»، ابن عجيبة (5/431).

[17]  «صحيح مسلم»، كتاب الإيمان، باب: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» (1/99) برقم (102).

[18]  http://arabic.bayynat.org/ArticlePage.aspx?id=7740

 الموقع الرسمي لمؤسسة العلامة المرجع محمد حسين فضل الله، 22شعبان 1421هـ/١٨/١١/٢٠٠٠.

[19]  «دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية»، المنتظري (2/ 548).

[20]  السابق (2/570).

[21]  «نهج البلاغة»، خطب الإمام علي (4/27).

[22]  «أجوبة الاستفتاءات»، علي الخامنئي (2/108).