زعمهم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شرب الخمر بعد تحريمها

الشبهة: من افتراءات القوم على عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: اتهامه بشرب الخمر بعد تحريمها، وأنه كان مدمنًا لها.
قال ناصر الموسوي: «إن عمر بن الخطَّاب كان مدمنًا للخمر منهمكًا في الشراب، وأخباره في هذا الباب لا تخفى على أولي الألباب، فكيف يزعم أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام يزوج ابنته الطاهرة عليها السلام بمثل هذا؟!...، ومن المعلوم أنَّ أهل الإسلام، ولو كانوا من العوام والهمج والرعاع والطغام، يستنكفون أن يزوجوا بناتهم من الشُّرَّاب، ويعدون ذلك مستوجبًا لأشد العذاب، فكيف يقدم على ذلك أمير المؤمنين عليه السلام؟ إن هذا من مفتريات المولعين بالبهت واللهو والكذاب» . وأورد عدة روايات، يتعلق كثيرٌ منها بالنبيذ.

الرد علي الشبهة:

أولًا:   عمر I أعلن الحرب على الخمر منذ إسلامه، قبل أن تحرّم.

فقد صح عنه أنه: «لَمَّا نزل تحريم الخمر قال: اللهمَّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شفاءً، فنزلت الآية الَّتي في البقرة: ﴿ ۞ يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ ٢١٩ ﴾ [البَقَرَةِ: 219] ، قَالَ: فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، قَالَ: اللهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ٤٣ ﴾ [النِّسَاء: 43] ، فكان منادي رسول الله H إذا أقيمت الصَّلاة ينادي: «أَلَا لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلاةَ سَكْرَان»، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهمَّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شفاء، فنزلت هذه الآية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ٩١﴾ [المَائـِدَة: 91] ، قال عمر: انتهينا»[1].

ثمَّ إنه بعد أن تولَّى الخلافة I اهتمّ بشأن تحذير الناس من الخمر وبيان حكمها، فعن ابن عمر قال: «سمعت عمر I على منبر النَّبي H يقول: أمّا بعد، أيّها النَّاس إنّه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسةٍ: من العنب، والتّمر، والعسل، والحنطة، والشّعير، والخمر ما خامر العقل»[2].

 بل ثبت عنه I أنه استشار كبار الصحابة في مسألة عقوبة شارب الخمر لمَّا لم يجد نصًّا صريحًا في ذلك، فعن أنس بن مالكٍ: «أنَّ النَّبي H أتي برجلٍ قد شرب الخمر، فجلده بجريدتين نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكرٍ، فلمَّا كان عمر استشار النَّاس، فقال عبد الرَّحمن: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر»[3].

فهل يعقل أنَّ شخصًا يبلغ حرصه على تطهير المجتمع المسلم من الخمر هذا المبلغ العظيم، ويثبت على هذا المنهاج إلى وفاته، ثمَّ يتساهل في شرب الخمر؟!

ثانيًا:   لا يوجد في كتب السُّنَّة والآثار، أن عمر I شرب الخمر، بل غاية ما ورد فيها أنه I شرب النبيذ، وذلك ثابت في قصة موته I؛ حيث سقاه الطبيب نبيذًا.

والنبيذ يطلق على الخمر، ويطلق أيضًا على الماء الذي يوضع فيه شيء من التمر أو الزبيب حتى يحلو الماء ثم يشرب قبل أن يتخمر، فهذا الثاني هو الذي شربه عمر I، وقد كان الرسول H يشربه، وأجمع العلماء على جوازه.

قال ابن عبّاسٍ L: قدم النَّبي H على راحلته وخلفه أسامة، فاستسقى، فأتيناه بإناءٍ من نبيذٍ فشرب، وسقى فضله أسامة، وقال: «أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ، كَذَا فَاصْنَعُوا»[4].

قال النووي: «وهذا النبيذ: ماء محلى بزبيب أو غيره؛ بحيث يطيب طعمه، ولا يكون مسكرًا، فأما إذا طال زمنه وصار مسكرًا فهو حرام»[5].

ثالثًا:   ورد في كتب القوم رواياتٌ تدل على إباحة النبيذ، وعدم حرمته:

روى الكليني بسنده، عن حنان بن سدير، قال: «سمعت رجلًا وهو يقول لأبي عبد الله: ما تقول في النبيذ، فإن أبا مريم يشربه ويزعم أنك أمرته بشربه؟! فقال: صدق أبو مريم، سألني عن النبيذ فأخبرته أنه حلال، ولم يسألني عن المسكر، قال: ثم قال: إن المسكر ما اتقيت فيه أحدًا، سلطانًا وغيره، قال رسول الله H : «كل مسكر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام» فقال له الرجل: جعلت فداك هذا النبيذ الذي أذنت لأبي مريم في شربه أي شيء هو؟ فقال: أما أبي فإنه كان يأمر الخادم فيجيء بقدح، ويجعل فيه زبيبًا، ويغسله غسلًا نقيًا، ثم يجعله في إناء، ثم يصب عليه ثلاثة مثله أو أربعة ماء، ثم يجعله بالليل، ويشربه بالنهار، ويجعله بالغداة ويشربه بالعشي، وكان يأمر الخادم بغسل الإناء في كل ثلاثة أيام، كيلا يغتلم، فإن كنتم تريدون النبيذ، فهذا النبيذ»[6].

قال عنه المجلسي: «الحديث الأول: موثق»[7].

وروى الكليني أيضًا بسنده، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: «استأذنت على أبي عبد الله لبعض أصحابنا، فسأله عن النبيذ، فقال: حلال، فقال:
أصلحك الله، إنما سألت عن النبيذ الذي يجعل فيه العكر فيغلي حتى يسكر، فقال أبو عبد الله: قال رسول الله H : «
كل مسكر حرام»[8].

قال عنه المجلسي: «الحديث السادس: حسن»[9].

وهذه الأحاديث وغيرها يلزم منها أن الأئمة أباحوا الخمر؛ لأنه لا فرق بينه وبين النبيذ حسب ما يقرر علماء الإمامية.

قال الطوسي: «وأجمعت الطائفة المحقة على أنه لا فرق بين الخمر والنبيذ في شيءٍ من أحكامه، لا في شرب الكثير، ولا في شرب القليل منه، فينبغي أن يكون العمل على ذلك ويترك ما خالفه»[10].

رابعًا: من عجيب حال القوم، أنهم يتهمون الفاروق عمر I بشرب الخمر، ويجعلون هذا طعنًا وقدحًا فيه، في حين أنهم يقرّون بأن كبار رواة الأحاديث عندهم كانوا يشربون الخمر، ومع ذلك فقد اعتذروا لهم، ولم يروا أن هذا مما يقدح في عدالتهم أو في دينهم.

ومن ذلك: أبو حمزة الثمالي، الذي ثبت عنه شرب الخمر، واعتذروا له بعدة أمور:

قال المامقاني: «وعلى تقدير الصحّة، يمكن أن يكون أبو حمزة:

1- ما كان يعرف حرمته، يومئ إليه سؤال أصحابه عنه S عن حرمته، كما ورد في كتب الأخبار، ومنه هذا الخبر.

 2- أو أنَّه كان يشرب لعلّة كانت فيه باعتقاد حلّه لأجلها، كما سيجيئ قريب منه في ابن أبي يعفور.

3-  أو كان يشرب الحلال منه فنمّوا إليه S ويكون استغفاره من سوء ظنّه بعام، ولعلّه هو الظاهر؛ إذ لا دخل لعدم تحريشه في الاستغفار عن شربه، فتأمَّل.

4- أو كان استغفاره من ارتكابه بجهله.

5- أو بظهور خطأ اجتهاده.

6- أو كان ذلك قبل وثاقته»[11].

وكما ترى، فكل هذه الترقيعات والتأويلات التي ليس عليها أثارةٌ من علم، لم تكن إلا لمجرد تبرير شرب هذا الراوي -الثقة عندهم- للخمر.

ومن الرواة: أبو هريرة البزاز.

قال النراقي: «نقل العلّامة عن العقيقي، أنَّ الصادق ترحّم عليه، فقيل له: إنّه كان يشرب النبيذ، فقال: أيعزز على الله أن يغفر لمحمّد بن عليّ شرب النبيذ والخمر؟ والظاهر أنَّ اللام للتعليل، كأنّه كان من أصحاب الباقر»[12].

وكما قال نقول، ونقلب الحجة نفسها عليهم: أيعزز على الله أن يغفر لأصحاب محمد بن عبد الله H شرب النبيذ والخمر -على فرض تسليم ثبوته-؟!

ومن الرواة: أبو نجران التميمي.

قال الطوسي: «وجدت في كتاب أبي عبد الله محمد بن نعيم الشاذاني بخطه، حدثني جعفر بن محمد المدائني، عن موسى بن القاسم البجلي، عن حنان بن سدير، عن أبي نجران، قال: قلت لأبي عبد الله S: إن لي قرابة يحبكم، إلا أنه يشرب هذا النبيذ، قال حنان: وأبو نجران هو الذي كان يشرب النبيذ، إلا أنه كنّى عن نفسه، قال: فقال أبو عبد الله S: فهل كان يسكر؟ فقال: قلت: إي والله، جعلت فداك، إنه ليسكر، فقال: فيترك الصلاة؟ قال: ربما قال للجارية: صليت البارحة؟ فربما قالت له: نعم قد صليت ثلاث مرات، وربما قال للجارية: يا فلانة صليت البارحة العتمة؟ فتقول: لا، والله، ما صليت، وقد أيقظناك وجهدنا بك، فأمسك أبو عبد الله S يده على جبهته طويلًا، ثم نحّى يده، ثم قال له: قل له يتركه، فإن زلت به قدم، فإنَّ له قدمًا ثابتةً بمودتنا أهل البيت»[13].

وعلى هذا النحو، يعتذرون للرواة عن شرب الخمر وترك الصلاة، بمجرد مودتهم لآل البيت، فكيف بمن كان وده، وحبه، ومدخله، ومخرجه للنبي H ؟!

ونحن مع ذلك نبرّئ أمير المؤمنين عمر I من شرب الخمر، وكيف يشربها وهو القائل: «اللهمَّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شفاء، فنزلت هذه الآية: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ٩١ ﴾ [المَائـِدَة: 91] ، قال عمر: انتهينا»؟

 

[1]   «سنن أبي داود»، كتاب الأشربة، باب: في تحريم الخمر (5/514) برقم (3670).

[2]   «صحيح البخاري»، كتاب تفسير القرآن، باب: قوله: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس (6/53) برقم (4619)، «صحيح مسلم»، كتاب التفسير، باب: في نزول تحريم الخمر (4/2322) برقم (3032).

[3]   «صحيح مسلم»، كتاب الحدود، باب: حد الخمر (3/1330) برقم (1706).

[4]   «صحيح مسلم»، كتاب الحج، باب: وجوب المبيت بمنى ليالي التشريق (2/953) برقم (1316).

[5]   «شرح النووي على مسلم»، النووي (9/64).

[6]   «الكافي»، الكليني (6/415).

[7]   «مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول»، المجلسي (22/275).

[8]   «الكافي»، الكليني (6/417).

[9]   «مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول»، المجلسي (22/278).

[10]  «الاستبصار»، الطوسي (4/236).

[11]  «تنقيح المقال في علم الرجال»، عبد الله المامقاني (13/279).

[12]  «شعب المقال في درجات الرجال»، أبو القاسم النراقي (ص328).

[13]  «رجال الکَشي»، الطوسي (ص320).