أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه أن يلزمن ظهور الحصر من بعده، فمن فعلت ذلك فهي زوجته في الجنة

الشبهة: جاء عند ابن سعد في (الطبقات)، قال:" أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِأَزْوَاجِهِ: "أَيِّكُنَّ اتَّقَتِ اللَّهَ وَلَمْ تَأْتِ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَلَزِمَتْ ظَهْرَ حَصِيرِهَا فَهِيَ زَوْجَتِي فِي الْآخِرَةِ".( ) قال الرافضة: فمن خرجت من النساء بعد ذلك من بيتها فهي عاصية، وليست زوجة للنبي في الجنة.

الرد علي الشبهة:

أولاً: هذه الرواية لا تصح، وفيها علتان:

1- محمد بن عمر الواقدي متروك.

قال الذهبي: "مُحَمَّد بن عمر بن وَاقد الْأَسْلَمِيّ مَوْلَاهُم الْوَاقِدِيّ، صَاحب التصانيف، مجمع على تَركه. وَقَالَ ابْن عدي: يروي أَحَادِيث غير مَحْفُوظَة، وَالْبَلَاء مِنْهُ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: كَانَ يضع الحَدِيث. وَقَالَ ابْن مَاجَه: ثَنَا ابْن أبي شيبَة، ثَنَا شيخ، ثَنَا عبد الحميد بن جَعْفَر، فَذكر حَدِيثا فِي لِبَاس الْجُمُعَة وحسبك بِمن لَا يَجْسُر أَن يُسَمِّيه ابْن مَاجَه"([1]).

2- الانقطاع بين عطاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - فعطاء من التابعين.

قال الحافظ ابن حجر: "عطاء ابن أبي ميمونة البصري أبو معاذ واسم أبي ميمونة منيع، ثقة، رمي بالقدر من الرابعة مات سنة إحدى وثلاثين"([2]).

  ثانيًا: جاء في رواية عند الإمام أحمد بإسناد حسن: "حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ صَالِحٍ، مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا حَجَّ بِنِسَائِهِ، قَالَ: "إِنَّمَا هِيَ هَذِهِ الْحَجَّةُ، ثُمَّ الْزَمْنَ ظُهُورَ الْحُصْر" ([3]).

هذه الرواية الكلام فيها متعلق بالحج لا غيره، ومع ذلك فالأمر فيها ليس على سبيل الوجوب، ولذلك فهم أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثُمَّ الْزَمْنَ ظُهُورَ الْحُصْرِ"، أنه لا يجب عليهن حج بعد ذلك، لا أنه يمنعهن من حج بيت الله الحرام، ولذلك وجدنا أن جميع أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - حججن بعده مرات عديدة.

فقد ثبت عند البخاري: "أَذِنَ عُمَرُ - رضي الله عنه -، لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، فَبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ".([4])

وروى ابن الجوزي في (المنتظم) في حوادث سنة (23 هـ): عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، وَأَبِي حَارِثَةَ، وَالرَّبِيعِ بِإِسْنَادِهِمْ قَالُوا: حَجَّ عُمَرُ بِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهُنَّ أَوْلِيَاؤُهُنَّ مِمَّنْ لا تَحْتَجِبْنَ مِنْهُ، وَجَعَلَ فِي مُقَدَّمِ قِطَارِهِنِّ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَفِي مُؤَخِّرِهِ: عُثْمَانَ بْنَ عَفَّان"([5]).

وروى البخاري أيضًا عن عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ:" قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ نَغْزُو وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ؟ فَقَالَ: «لَكِنَّ أَحْسَنَ الجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ الحَجُّ، حَجٌّ مَبْرُورٌ»، فَقَالَتْ عَائِشَةُ «فَلاَ أَدَعُ الحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -"([6]).

وقد بيَّن الحافظ ابن حجر في الفتح هذه الروايات بيانًا شافيًا فقال: "وروى بن سَعْدٍ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ رَأَيْتُ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَجَجْنَ فِي هَوَادِجَ عَلَيْهَا الطيالسة زمن الْمُغيرَة أَي بن شُعْبَةُ.

 وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ زَمَنَ وِلَايَةِ الْمُغِيرَةِ عَلَى الْكُوفَةِ لَمُعَاوِيَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ خَمْسِينَ أَوْ قَبْلَهَا، وَلِابْنِ سَعْدٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ، قَالَتْ رَأَيْتُ عُثْمَانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ حَجَّا بِنِسَاءِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَزَلْنَ بِقُدَيْدٍ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ وَهُنَّ ثَمَانٍ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُنَّ اسْتَأْذَنَّ عُثْمَانَ فِي الْحَجِّ، فَقَالَ: أَنَا أَحُجُّ بِكُنَّ فَحَجَّ بِنَا جَمِيعًا إِلَّا زَيْنَبَ كَانَتْ مَاتَتْ وَإِلَّا سَوْدَةَ، فَإِنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهَا بَعْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ وَاقِدِ بْنِ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ لِنِسَائِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ هَذِهِ ثُمَّ ظُهُورَ الْحُصُرِ زَادَ بن سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَكُنَّ نِسَاءُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَحْجُجْنَ إِلَّا سَوْدَةَ وَزَيْنَبَ، فَقَالَا لَا تُحَرِّكُنَا دَابَّةٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَإِسْنَادُ حَدِيثِ أَبِي وَاقِدٍ صَحِيحٌ، وَأَغْرَبَ الْمُهَلَّبُ فَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ الرَّافِضَةِ لِقَصْدِ ذَمِّ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ فِي خُرُوجِهَا إِلَى الْعِرَاقِ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ فِي قِصَّةِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ، وَهُوَ إِقْدَامٌ مِنْهُ عَلَى رَدِّ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَالْعُذْرُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا تَأَوَّلَتِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ كَمَا تَأَوَّلَهُ غَيْرُهَا مِنْ صَوَاحِبَاتِهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ غَيْرُ تِلْكَ الْحَجَّةِ، وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ عِنْدَهَا بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - "لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ"، وَمِنْ ثَمَّ عَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ وَكَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُتَوَقِّفًا فِي ذَلِكَ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ الْجَوَازُ فَأَذِنَ لَهُنَّ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ فِي عصره من غير نَكِير".([7])

فهذا فهم أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - للحديث، بل هذا فهم جميع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان إجماعًا.

  ثالثًا: قد قال الرافضة أن الروايات إذا أعرض عنها أصحاب الأئمة، حتى ولو كانت صحيحة سندًا، فهي ضعيفة ولا يؤخذ بها، لمجرد إعراض أصحاب المعصومين عنها، فصار فهم أصحاب المعصوم هو الحاكم على الرواية حتى لو كانت في غاية الصحة والوضوح.

يقول البروجردي: "ومن هنا اشتهر أن الرواية كلما ازدادت صحة ازدادت ضعفا وريبا إذا أعرض عنها الأصحاب، وكلما ازدادت ضعفا زادت قوة إذا عمل بها الأصحاب كما في المسألة المشار إليها".([8])

ويقول الميرزا القمي: "وهذه الأخبار كلما ازدادت عددًا وسندًا ودلالة مع هجر معظم الأصحاب إياها ازدادت ضعفًا، خصوصا مع عملهم على ما هو أقل منها عددًا وسندًا ودلالة".([9])

وقال مثل ذلك الگلپايگاني ([10]).

وقال حيدر حب الله: "ولهذا ضعّف الأدلّة الروائيّة هنا بعض الفقهاء في بحوثهم العلميّة، مثل الشيخ جعفر السبحاني، والسيد تقي القمي، والسيد العاملي صاحب (نهاية المرام)، لكنّهم عادوا وقوّوا الروايات بعمل الأصحاب وبالإجماع المحقّق على هذا الحكم".([11])

فإذا كان الإجماع حاكمًا على الرواية، فقد أجمع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن هذه الرواية ليس فيها منع خروج أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيوتهن لمصلحة شرعية، سواء كان لحج أو لغيره، لاسيما وقد خفف الله عنهن، وأذن لهن في الخروج من البيت لقضاء الحوائج كما عند البخاري قال - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ أَذِنَ اللَّهُ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ".([12])

فثبت من ذلك أن كل مصلحة شرعية معتبرة تجيز لهن الخروج من بيوتهن قطعا.

رابعاً: يعيب الرافضة على نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- مجرد الخروج من البيت مع أن فاطمة بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خرجت - في رواياتهم- وخطبت أمام الرجال، بل وأمسكت بتلابيب عمر.

في (الكافي): "عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه (عليهما السلام) قالا: إنّ فاطمة (عليها السلام) لمّا أن كان من أمرهم ما كان- أخذت بتلابيب عمر، فجذبته إليها، ثمّ قالت: أما واللّه يا ابن الخطّاب لو لا أنّي أكره أن يصيب البلاء من لا ذنب له لعلمت أنّي سأقسم على اللّه ثمّ أجده سريع الإجابة" ([13]).

قال المازندراني: "التلابيب جمع التلبيب، وهو ما في موضع اللبب من ثياب الرجل، تقول: أخذت بتلبيب فلان، إذا جمعت عليه ثوبه الّذي هو لابسه، وقبضت عليه تجره، وكان ذلك حين مزق كتابها الّذي كتبها أبو بكر، في ردّ فدك إليها بعد إكمال الحجة عليه فآذاها وآذى الرسول بذلك"([14]).

فهل يليق بفاطمة أن تصارع الرجال؟! هل تفعل ذلك امرأة صاحبة حياء فضلا عن بضعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! فضلا عن أن زوجها لازال حيا!

وأما خطبة فاطمة فمشهورة في كتب الشيعة، وقد رواها الطبرسي تحت عنوان "احتجاج فاطمة الزهراء (ع) على القوم لما منعوها فدك وقولها لهم عند الوفاة في الإمامة". ([15])

فزعموا أنها دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، وخطبت فيهم خطبة طويلة، ثم عنَّفت علي بن أبي طالب بأقذع الألفاظ ([16])، فليزمهم بذلك في فاطمة ما ذكروه في أمهات المؤمنين رضي الله عن الجميع.

والحمد الله رب العالمين

 

[1]- المغني في الضعفاء، الذهبي، (2/ 619).

[2]- تقريب التهذيب، ابن حجر، (ص 392).

[3]- مسند أحمد، (15/ 476).

[4]- صحيح البخاري، (3/ 19).

[5]- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ابن الجوزي، (4/ 327).

[6]- صحيح البخاري، (3/ 19).

[7]- فتح الباري، ابن حجر، (4/73-74).

[8]- تقريرات في أصول الفقه، تقرير بحث البروجردي، للاشتهاردي (ص 296).

[9]- غنائم الأيام، الميرزا القمي، (1/ 414).

[10]- در المنضود، السيد الگلپايگاني، (1 /330 – 331).

[11]- إضاءات في الفكر والدين والاجتماع، حيدر حب الله، (ص 367).

[12]- صحيح البخاري، (7/ 38).

[13]- الكافي، الكليني (1/460).

[14]- شرح الكافي، صالح المازندراني (7/ 214).

[15]- الاحتجاج، الطبرسي (1/131).

[16]- انظر : بحار الأنوار، المجلسي، (29 / 317 ).